سامح الله الأتراك، فقد أحرجونا نحن العرب بحملتهم التي أسموها «قافلة الحرية»، وكشفوا لنا «سوءات» كثيرة كنا نخفيها عن الناس، فقد ذكَّرونا أن غزة محاصرة، وكنا قد بدأنا ننسى أن هناك حصاراً على غزة، أو أن هناك بلدا اسمه غزة، أو أن هناك مليونا ونصف المليون من البشر يعيشون على أرض غزة وأنهم مثل بقية «المخلوقات» يحتاجون للطعام والماء، كنا قد نسينا أو كدنا ننسى ذلك لولا هؤلاء الأتراك -سامحهم الله- الذين جمعوا سفنهم وحرَّضوا الآخرين على مشاركتهم هذه القافلة، فجمعوا معهم مئات البشر، بين صغير وكبير ورجل وامرأة وعامل بسيط وطبيب ومهندس، كما حرَّضوا العلماء على مشاركتهم في حمل الأطعمة والأدوية لسكان غزة، حتى استطاعوا إقناع مَنْ يحمل جائزة نوبل ليكون من بينهم، فسامحهم الله على هذا «التحريض»، وما علموا أن العلماء لا شأن لهم بالسياسة، كما يقول علماؤنا و«رجال الدين» عندنا.
لقد شغلنا الأتراك بحملتهم تلك عن قضايا كثيرة تشغلنا، فنحن على خلاف بيننا، هل تكون المفاوضات مع «إسرائيل» مباشرة أو غير مباشرة، فما زلنا نقدم رِجلاً ونؤخر رجلاً في مسألة التفاوض تلك رغم أن شهرين مَضَيا منذ قررت جامعتنا العربية العتيدة «الموافقة» على التفاوض غير المباشر مع «إسرائيل» التي لم نسمع لها رأياً في هذا التفاوض.
وسامح الله الأتراك، فقد كشفوا لنا أننا مازلنا مصرين على التفاوض حتى بعد وقوع «مذبحة الحرية»، وقال قائل من بيننا إن إسرائيل فعلت ما فعلت من أجل أن تصرفنا عن المفاوضات! أما ضحايا الحرية فسنكتفي بالتنديد والشجب واعتبار ذلك إرهاب دولة، بل سنعلن الحداد عليهم ثلاثة أيام، ألا يكفي الأتراك ذلك؟، هل يريدون أن يحرجوننا أمام العالم أكثر مما فعلوا، هل يريدون أن يقولوا للعالم إننا نحاصر أهل غزة من البر كما تحاصرهم إسرائيل من البحر؟، وإنها إذا كانت تقيم الجدار العازل فوق الأرض، فنحن أبرع منها فقد أقمناه تحت الأرض!، وأن بعوضة لا تستطيع أن تعبر من غزة إلا ونحن لها بالمرصاد، فلماذا يسيِّر الأتراك سفنهم إلى غزة؟ هل هي مظاهر العظمة الجديدة، أم أنها عودة للهيمنة العثمانية أو الاستعمار التركي كما علمتنا كتب التاريخ في المدرسة، أم يريدون أن يتشفوا منا ويذكرونا أن فلسطين عندما كانت تحت سيطرتهم أو احتلالهم لم يجرؤ اليهود عليها، وأنهم حين سلموها لنا كنا متسامحين فسلمناها لليهود، ألسنا أمة التسامح، أم يريدوننا أن نثور لأتفه الأسباب كما يفعلون هم كلما داس أحد على طرف لهم؟
سامحهم الله على تقليب التاريخ والمواجع، وقد كنا نسينا ذلك، وانشغلنا بشؤون حياتنا، حتى أصبح بعضنا يمل من سماع الأخبار حول غزة وفلسطين، وعلى طرف لسانه علق لافتة مكتوبا عليها «ما لنا ولفلسطين.. هل سنكون ملكيين أكثر من الملك.. أسمِعونا شيئاً آخر»!، فجاء الأتراك -سامحهم الله- ليشغلونا بسماع أخبار حملتهم وتحركاتهم ومواجهتهم لليهود في عرض البحر، وكأن الدنيا خلت إلا من أخبار هذه القافلة، لقد شغلونا خلال الأيام الماضية بأخبارهم حتى لم نستطع أن نتابع المسلسل التركي الذي تبثه بعض قنواتنا أكثر من مرة في اليوم، لكن بعض قنواتنا الأخرى كانت أكثر حرصا على إمتاعنا وتسليتنا، فأصرَّتْ -أو ألحَّتْ- على أن تخفف عنا الضغط النفسي الذي سببته لنا أخبار قافلة الحرية، فأمتعتنا بعرض المسلسل التركي خلال تلك الأيام، وكأنها تقول لنا لا تغرّنكم حركات الأتراك، فهم إما مهند أو نور!
فاكتشفنا أن هناك أتراكا آخرين يموتون من أجل فلسطين، ويحركون العالم معهم من أجل أطفال غزة، بينما نكتفي نحن بالمطالبة برفع الحصار عن غزة، وكأن غزة في كوكب المريخ تحتاج إلى مركبة فضائية للوصول إليها، فكلما خرج علينا أحدهم بدأ بالشجب والتنديد وانتهى بالمطالبة برفع الحصار، وكأنه يقدم ذلك المشهد في مسرحية «الزعيم» عندما يقف مساعد الزعيم ليلقي خطبة «أنيقة» فيسأله الزعيم: «متى تعلمت الكلام ده؟»، فيجيبه: «ده.. طقم.. بنحفظه.. ونقوله في المناسبات»، ويبدو أن مناسباتنا كثيرة مما زاد من أطقمنا!
فسامح الله الأتراك الذين كشفوا لنا كل ذلك، فما لهم ولفلسطين، وهم ليسوا عربا ولا فلسطينيين، هل يعتقدون أنهم يملكون حقا فيها لأنهم مسلمون، أو ليس المسلمون العرب أولى بذلك؟ إن هناك ملايين المسلمين الذين لا يعنيهم أمر فلسطين، فلماذا يحرجونهم أمام أبنائهم وزملائهم عندما يسألونهم «هل أهل غزة مسلمون؟»، أم أن ذلك يحتاج إلى فتوى من أحد المشايخ، لكن المشايخ لا يفتون في السياسة، وبعضهم لديه ما هو أهم من ذلك، إذ إنهم مشغولون بإرضاع الكبير وكيفية إرضاعه، وهل يمكن للسائق أو العامل في البيت أن يرضع من صاحبة البيت، وهل يمكن لصاحب البيت أن يرضع من الخادمة لديه؟، أما فئة منهم فقد أرادوا أن يواكبوا العصر فالتحقوا بدورات تدريبية تعلمهم أن إسرائيل لا يجوز محاربتها أو الجهاد ضدها لأنها جارة، والرسول صلى الله عليه وسلم وصَّى بالجار! فلماذا لم تأخذوا بهذه الفتوى وتجلسوا على ضفاف البوسفور تراقبون السفن العابرة بدلا من أن تعتلوا صهواتها إلى غزة وتسببوا لنا هذا الحرج بل الإزعاج..
سامحكم الله أيها الأتراك!