ومرت الأيام سريعًا.. ربما يكون اليوم قد مضى على رحيلك عشر سنوات، أو عشرون سنة، أو ربما لا تذكر تحديدًا متى غادرت الوطن، وقررت أن تبدأ حياة جديدة بهدف البحث عن لقمة العيش، ولكني أطلب اليوم منك وقفة مع النفس للمراجعة وضبط البوصلة جيدًا، حتى لا تكتشف أن سنوات العمر قد هربت منك بغير رجعة.
حالة من الاهتمام والجدل خلفها مقال الدكتور "فيصل القاسم" المذيع الشهير بقناة الجزيرة "أيها المغتربون استمتعوا حيث أنتم"، والذي غاص من خلاله في أعماق المشكلة واعتبر أنه "مهما طالت سنين الغربة بالمغتربين، فإنهم يظلون يعتقدون أن غربتهم عن أوطانهم مؤقتة، ولا بد من العودة إلى مرابع الصبا والشباب يوماً ما للاستمتاع بالحياة، وكأنما أعوام الغربة جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب، لاشك أنه شعور وطني جميل، لكنه أقرب إلى الكذب على النفس وتعليلها بالآمال الزائفة منه إلى الحقيقة، فكم من المغتربين عانى الأمرّين، وحرم نفسه من ملذات الحياة خارج الوطن كي يتمتع بالدريهمات التي جمعها بعد العودة إلى دياره، ثم طالت به الغربة وانقضت السنون، وهو مستمر في تقتيره ومعاناته وانتظاره، وكم من المغتربين عادوا فعلاً بعد طول غياب، لكن لا ليستمتعوا بما جنوه من أرزاق في ديار الغربة، بل لينتقلوا إلى رحمة ربهم بعد عودتهم إلى بلادهم بقليل، وكأن الموت كان ذلك المستقبل الذي كانوا يرنون إليه! لقد رهنوا القسم الأكبر من حياتهم لمستقبل ربما يأتي، وربما لا يأتي أبداً، وهو الاحتمال الأرجح".
انتهى كلام الدكتور "فيصل القاسم" وهو الكلام الذي لا يعرف معناه إلا من عايش الغربة وتجرع من كأسها، وبالتالي فان الحديث اليوم موجه إلى هذه الشريحة فقط، أما من كان في ربوع وطنه فلن يشعر بما تنكأه تلك الكلمات من جراح عميقة وما تخلفه من أثر. ولكن حتى تبدو الصورة مكتملة فلا بد من أن نتطرق إلى الجانب الآخر من مشاكل المغتربين، فالقضية عند البعض ليست مجرد الاستمتاع بالحياة وبالأموال التي جمعها من الغربة، وأنا أجزم أن هناك الكثير من المغتربين لديهم القدرة المالية التي تمكنهم من العودة إلى أوطانهم، ولكنهم يرفضون تلك الفترة في الوقت الراهن، والسبب الرئيس في ذلك أن حال وطننا لا يسر عدو أو حبيب، وأنه لا يمكن أن يترك سيارة الدفع الرباعي التي يملكها، وهذا النمط من الحياة الهانئة والمنظمة في كل شيء، من أجل أن يعود إلى حيث يسيطر الفساد والعشوائية في الفكر والسلوك.
دعني أطلب منك عزيزي أن تعود بالذاكرة إلى الوراء قليلاً، لأسألك عن هدفك الذي سافرت من أجله؟ وهل استطعت تحقيقه أم لا؟ هل تذكر ذلك الوعد الذي قطعته لأحبابك بأنك لن تزيد عن أربع أو خمس سنوات من السفر، تتمكن خلالها من تحقيق هدفك في ذلك الحين من امتلاك الشقة الملائمة أو غيرها؟ ألا تتفق معي أن هدفك الآن قد تطور بشكل ملحوظ؟ وأنه بمرور الوقت صرت تعمل فقط من أجل تحسين حياة أولادك وتكوين مستقبلهم، وهذا بالتأكيد حقك.. ولكن اسمح لي أن أسألك عن اللحظة التي سوف تكتفي فيها وتقرر العودة إلى الوطن، هل هي بعد عام أو خمسة أو حتى عشرة؟ المهم.. هل خططت لمستقبلك؟ أم أنك ستنتظر حتى ينهي أولادك دراستهم الثانوية، لتبدأ حياتهم الجامعية في مصر، بينما تبقى أنت وحيدًا في الغربة تصل الليل بالنهار في نفس الدوامة، هل جربت يا عزيزي أن تتمتع بالعيش مع أولادك بدلاً من العيش من أجل أولادك؟ المعلومة الأخطر التي تهمك.. هي أن الغالبية العظمى من أبناء المغتربين يعانون كثيرًا عند العودة إلى مصر والالتحاق بجامعاتها، أنا لا أتحدث عن المجموع الذي يؤهلهم للالتحاق بالجامعات الحكومية أو الخاصة، وما يتبع ذلك من مصاريف إضافية تحتاج منك مزيدًا من الأعوام بالغربة لتغطيتها، ولكن أعني الجانب الاجتماعي والسلوكي؛ فهم قد ترعرعوا في مجتمع مغاير تمامًا من ناحية العادات والتقاليد، وهو ما يؤثر على تكوينهم النفسي وينعكس على تصرفاتهم، ما بين الانغلاق الكامل وعدم القدرة على التكيف مع الوضع الجديد، وبين الانبهار الكامل الذي يصاحبه محفظة ممتلئة بالنقود من خلال والده الذي يعمل بالخليج، وهو ما يدفع بالكثير من الشباب إلى الانحراف المبكر نتيجة غياب دور الأب.
تكمن أحد الجوانب الأخرى للمشكلة في أنك عزيزي المغترب قد تكونت لديك صورة سلبية أكثر من اللازم عن الواقع المصري، صحيح أن أحوال الوطن لا ترضي أحدًا؛ ولكن الصورة لديك تزداد سوءًا من خلال متابعتك لعالم البرامج الحوارية التي تبحث عن السبق الصحفي في قضايا الفساد والجرائم، أضف إلى ذلك أنك تعايش الواقع في المجتمع لمدة أسابيع قليلة من خلال أجازتك السنوية، والتي تلاشت فيها علاقاتك مع الأهل والأصدقاء، اللهم إلا ممن ضاقت بهم سبل الحياة ويرونك المخلص لمشاكلهم ، ولم لا.. وأنت بالنسبة لهم رجل يعمل لمدة عشرة شهور في العام، ثم يعود إلى بلده محملاً بزكائب المال، تلبس ثوب "الدفة" وحوارك معهم يدور حول أنواع سمك "الهامور"، وأسعار جمارك السيارات!.
مشكلتك يا عزيزي أنك لا تشاهد الوطن إلا من خلال دائرة ضيقة ترتبط بواقعك المرير حين غادرته، ذكريات الوطن ترتبط معك بزحمة "الأوتوبيس"، وخناقات "الميكروباص"، ومجاري الشوارع، بينما لم تعرف أنه توجد دوائر أخرى أوسع، تضم شريحة استطاعت من خلال تملكها المال أن تصبح حياتها مختلفة عن تلك التي عشتها أنت، حياة يدور فلكها في "فلل" التجمع الخامس، وقرى الساحل الشمالي، أغلبهم من الشرفاء الذين كسبوا أموالهم بالحلال، وقرروا أن يغيروا من نمط حياتهم، وأنت بإمكانك -إن أردت- أن تستمتع بحياتك في بلدك على نفس المنوال.
أنا لا أطلب منك العودة ولا البقاء، وإنما أطلب منك أن تقرر ماذا تريد أن تفعل؟ وأن تحدد هدفك بوضوح، وتصبح صادقًا مع نفسك، ماذا تريد الآن من الغربة؟ وإلى متى؟ أرجوك لا تدفن رأسك في الرمل وتؤجل الإجابة على هذه الأسئلة إلى حين تتحسن الظروف والأجواء في وطنك، فهذه عشرات السنين قد مرت ولم يحدث ما تنتظره من تحسن، وستمر أيام العمر سريعًا لتصبح مجرد ذكريات، إذا كان الدكتور "فيصل القاسم" قد طلب منك أن تستمتع بحياتك في الغربة؛ فأنا الآن أطالبك بأن تبدأ حياتك، وتوجه بوصلتها نحو الاتجاه الصحيح، يا عزيزي.. إذا كنت لا تعلم وجهتك، فحتمًا ستصل إلى المجهول.