التقوى روح الصيام *
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة:183).
العبادات مدرسة أخلاقية دينية
تمثِّل العبادات، في منطلقاتها وأهدافها، مدرسةً أخلاقيةً دينيةً إيمانيةً، بحيث إنَّ الإنسان الذي يؤدِّي أية عبادة من العبادات، لا بدّ من أن يخرج منها، وقد استطاع أن ينجح في هذه المدرسة الإسلامية الإلهية، فنحن نقرأ في مسألة الصلاة قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ}(العنكبوت:45)، فالصَّلاة ليست مجرَّد حركاتٍ يؤدِّيها الإنسان أو كلماتٍ يقرأها، بل هي حال عروجٍ روحي إلى الله تعالى، عندما يقف الإنسان بين يدي ربِّه ليشهده على إيمانه به، وتوحيده له، والتزامه برسوله وبرسالات الرسل، وعلى أنّه يعيش العبودية له في الطَّاعة فلا يطيع غيره، وفي العبادة فلا يعبد غيره، فسر العبودية في حياة الإنسان هو أن يأتي من خلال صلاته بكلِّ ما يحبه الله، ويبتعد عن كلِّ ما يبغضه.
أمّا الفحشاء، فهي عبارةٌ عن كلِّ عملٍ يتجاوزُ حدود الله التي حدَّدها للإنسان وأراد له أن يقف عندها ولا يتجاوزها. والمنكر هو كلُّ أمرٍ حرَّمه الله على الإنسان، سواء فيما يتكلَّم به، أو فيما يتحرَّك فيه، أو فيما يأكله أو يشربه أو يشتهيه. فالإنسان في صلاته يُشهِد الله على أنّه يقف من أجل أن يصل إلى مواقع القرب عنده، بحيث ينوي في نفسه القرب منه، ومعنى ذلك، أنّه إذا كان مخلصاً له في نيّته، فإنّ عليه أن لا يأتي بأيّ عمل يبعده عنه، لأنّه لا إشكال في أنّ كلّ ما حرَّمه الله على الإنسان، يبعد الإنسان، في حال الإتيان به، عن التقرب منه سبحانه.
ولذلك ورد عندنا في الحديث: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلاَّ بُعداً»، بمعنى أنَّ الإنسان الذي يصلِّي، ولكنَّه يرتكب المحرَّمات ويترك الواجبات، فإن الله لا يقبل منه هذه الصّلاة، وبذلك يبتعد عن ربِّه، لأنه يحاول أن يخدعه بأنَّه يصلي، في الوقت الّذي يبتعد بعمله عنه. وقد ورد عندنا في الحديث: «رُبَّ قائمٍ ليس له من قيامه إلا السَّهر»، وهو الذي يقوم في اللَّيل للصلاة، ولكن من دون أن ينفتح على الله تعالى، أو أن يجعل من قيامه في الليل وسيلةً من وسائل الارتفاع إلى مواقع محبّته والقرب منه.
هدف الصوم
وهكذا يحدِّثنا الله في هذه الآية عن الصَّوم، وأنَّه سبحانه فرض الصوم من أجل أن يحصل الإنسان على ملكة التقوى، ليكون الصوم وسيلةً من وسائل التقوى، بحيث يخرج الصائم من هذا الشهر وهو يتَّقي الله في كلّ ما يقوله أو يفعله، حتّى لا يكون الصوم مجرَّد إمساكٍ عن الطعام والشراب، من دون أن تكون للصَّائم روحية الصوم، لأنّ الإنسان يصوم قربةً إلى الله، ومعنى ذلك أن يمتدَّ صومه عن الطعام والشراب والشهوات إلى الصوم عن كلّ المحرَّمات، لأنّ هناك صومين: صوم شهر رمضان الذي يصوم فيه الإنسان من الفجر إلى الغروب، وصوم العمر، وهو أن يصوم الإنسان عن المحرَّمات في كلِّ عمره. فالله تعالى أراد لنا أن نصوم عن الغيبة والنميمة والتجسّس، وأن نصوم عن أكل المال بالباطل، وعن الزنا وشرب الخمر والقمار ومعاونة الظالم واحتقار المستضعف وإيذاء الناس والاعتداء عليهم... هذه الأفعال هي مما أراد الله للإنسان أن يصوم عنها في الليل وفي النهار، لا في وقت معين، بل هي تمثّل صوم العمر، فإذا كان الصوم العبادي يمثّل صوم النهار، فهذه تمثّل صوم العمر.
عناصر التقوى
وعلى ضوء هذا، أيّها الأحبَّة، فإنّ التقوى بحاجة إلى عنصرين: العنصر الأوَّل، هو أن يعرف الإنسان ما أراده الله منه، وما حرَّمه عليه، لأنّه لا يمكن للإنسان الذي يجهل الواجبات أن يفعل ما أراده الله منه أو يترك ما حرَّمه عليه، ولذلك لا بدَّ لكل مسلم من أن يمتلك الثقافة الفقهية الشرعية.
وقد ورد عن الإمام جعفر الصَّادق(ع) أنَّه قال: «ليت السِّياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقَّهوا في الحلال والحرام»، لأنّ قضية أن تكون مسلماً، يعني أن تلتزم بالإسلام كلّه؛ أن تلتزم به فيما أوجبه الله عليك، وأن تلتزم به فيما حرَّمه عليك، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(الأحزاب:36).
أما العنصر الثاني فهو الإرادة، بمعنى أن تكون للإنسان الإرادة التي يستطيع من خلالها أن يضغط على النفس الأمَّارة بالسّوء، وأن يضغط على شهواته عندما تدفعه إلى الحرام، وعلى نفسه عندما تدفعه إلى ترك الواجبات.
الصوم وسيلة تقوية الإرادة
وهنا يأتي دور الصَّوم، باعتباره وسيلةً من وسائل تقوية الإرادة، وذلك عندما يجوع الإنسان والطَّعام بين يديه ونفسه تدفعه إلى الأكل، ولكنَّ الصوم يمنعه من ذلك، ويقول له: لتكن لك الإرادة في طاعة الله، لأنَّ الله حرَّم عليه هذا الطعام في النَّهار، وإن كان حلالاً في اللَّيل أو حلالاً في وقت آخر، وكذلك الأمر بالنّسبة إلى الماء... وهكذا إذا وجد الإنسان نفسه تدعوه إلى الإتيان بالشَّهوات المحرّمة وهي بين يديه، فإنّ الصّوم يمنعه من ذلك. يقول تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}(الإسراء:32)، أي لا تقربوا كلّ ما حرَّمه الله في قضايا الجنس. وهكذا أيضاً بالنسبة إلى المال الحرام: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ}(البقرة:188). فعلى الإنسان أن يصوم عن ذلك، وأن يقتصر على المال الحلال. وكذلك الأمر عندما يتحرك الإنسان في المجتمع مع أشخاص يظلمون النَّاس ويبغون في الأرض بغير الحق، فإنّ عليه أن لا يتعاون معهم أو يؤيِّدهم للحصول على فرصةٍ من خلال ما يملكونه هنا أو هناك، بل عليه أن تكون له إرادة أن يصبر على الحرمان من بعض الوظائف أو المواقع التي يكلّفه الحصول عليها ارتكاب الحرام. ومن هنا، فإنّ الصوم عندما ينطلق من الإرادة الجدية، فإنه يقوِّي الإرادة، وعندما تقوى الإرادة تقوى حركة الخير في النّفس وتبتعد عنها حركة الشرّ، حتى لا يكون الإنسان كما ورد في بعض الأحاديث: «ربَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلاّ الجوع والعطش».
وعلى ضوء هذا، علينا أن نصوم عن العصبيَّات، لأنّ هناك عصبيات شخصية يتعصَّب فيها الإنسان لنفسه، وعصبيات عائلية يتعصَّب فيها لعائلته، كما أن هناك عصبيات عشائرية وطائفية ومذهبية وإقليمية، والعصبية تغلق على الإنسان باب عقله، لأنّ الإنسان الذي يتعصَّب هو إنسانٌ ينطلق من غرائزه المنحطَّة ولا ينطلق من حساباته العقلية المسؤولة، وقد ورد عن النّبيّ(ص): «من تعصَّب أو تُعصِّب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه». لذلك هناك فرقٌ بين الالتزام والعصبيَّة، فالعصبيَّة هي أن تتحرّك مع من تتعصَّب له وأنت أعمى؛ أعمى العقل والشعور والإحساس.
ثبوت الهلال والعصبية
ومن هنا، فإنّ علينا عندما تظهر بعض الاختلافات في الفتاوى أو في وجهات النظر، أن لا نأخذ بأسباب العصبيَّة، بل أن نقول إنّ لكلِّ إنسان تكليفه، وهو يحاسب عند ربِّه، أما أن نحاول التّعصّب ضدّ الذي يختلف معنا في الرأي أو في السياسة أو في المرجعية أو في أوائل الشهور وأواخرها، فإنّ هذا ليس من التقوى وليس من الدين في شيء. نحن تعوَّدنا في الواقع الإسلامي كلّه، لا في الواقع الشيعي فقط، على الاختلاف في بدايات الشهور ونهاياتها، ولذا نحن في هذه السنة عندنا ثلاث أول رمضانات؛ ففي ليبيا والهند، كان أوّل شهر رمضان يوم الأحد، وفي البلاد العربية وأندونيسيا وما إلى ذلك الإثنين، وفي العراق وإيران وباكستان الثلاثاء، وإن شاء الله لا يصير عندنا أربعاء وخميس، لأن هذا يقول نحن رأيناه وذاك يقول نحن لم نره، المهمّ كما قلنا، إنَّ الحلّ الوحيد، والذي انطلقنا فيه من أستاذنا السيد أبو القاسم الخوئي(رحمه الله)، هو أنّ مسألة الهلال ليس لها أيُّ ربط بالعيون، بل هي مسألةٌ ترتبط بالنظام الكوني فيما يتعلق بالزّمن، لأنّ الله تعالى لما خلق الأشهر، لم يكن هناك عيون، ولا كان هناك إنسان {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}(التوبة:36)، فقبل أن يخلق الله الإنسان كانت الشهور. إذاً كيف يكون الفرق بين شهر وشهر؛ هل يوجد حواجز بين الشهور؟ إنَّ الزمن ممتد، والذي يجعل شهراً يختلف عن شهر، هو أنه عندما يدخل القمر في المحاق، فذلك يعني أنّ الشهر انتهى، وعندما يخرج من المحاق، وهو الّذي يسمونه توليداً، فذلك يعني أنّ الشّهر بدأ.
ولذا نحن نقول إنَّ مسألة أول الشهر وآخره لا يرجع إلى العلماء، لأنهم ليسوا أهل خبرة في ذلك، بل يرجع إلى الفلكيين، لأنهم هم الذين يحدِّدون لنا متى ولد الهلال، وهل يمكن رؤيته أو لا يمكن، وقد كان رأي السيد الخوئي العلمي، كما قلنا، يرتكز على هذه النقطة.
ولذلك نحن في كلِّ سنة، عندما نعلن عن الهلال، سواء في أوَّل الشهر أو في آخره، إنّما يكون ذلك بعد الرجوع إلى أهل الخبرة في العالم كلّه، أي بعد الرّجوع إلى كل الأشخاص المتخصّصين وكلّ أهل الخبرة، ولكنَّ أكثر العلماء من السنة والشيعة لا يزالون يعتمدون على الرؤية، لأنَّ النبي(ص) يقول: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته». ونحن نقول، كما يقول السيِّد الخوئي، إنَّ الرؤية وسيلة للمعرفة ولتحصيل اليقين. ونحن في وقت أصبحت الحسابات الفلكية الدقيقة، وبحسب أهل الخبرة، أوضح وأدقّ من الرؤية، لأنَّ الجوَّ أصبح ملوَّثاً، وأصبح من الممكن أن يرى الإنسان في الفضاء عشرين هلالاً، لأنّ اللمعان الموجود من خلال هذه العناصر الموجودة في الفضاء، يمكن أن يوهم الإنسان بأنّه يرى هلالاً وما هو بهلال.
ولكن نحن نرى أنّه إذا تولَّد الهلال، وثبت عندنا من خلال أهل الخبرة إمكانية الرؤية ولو في بلد نلتقي معه بجزء من الليل، دخل الشهر، وقد تولّد هلال شهر رمضان السبت الساعة العاشرة مساءً. نحن نرى هذا، والآخرون معذورون في اجتهاداتهم التي نحترمها.
ولذلك المطلوب أن يقوم كل واحد منا بتكليفه، ولكن ما نريده هو أن لا نتعصَّب ضد بعضنا البعض، ولا نخلق فتنةً، لأن الذين يصنعون الفتنة في المجتمع، سوف يعاقبهم الله.
مسؤولية التقوى
وقد أراد الله سبحانه وتعالى أراد من خلال فريضة الصوم أن يعد الصائمين ليحصلوا على التقوى، والتي تمثل استحضار عظمة الله في نفس الإنسان، بحيث يشعر في كل حياته، في كل ما يريد أن يفعله أو يتركه، بأن الله يراه ويراقبه، وأن كل عمل يعمله سوف يخضع للحساب والسؤال من قِبَل الله: كيف عملت هذا العمل؟ ولماذا عملته، أو على أي أساس تركته؟ ليجيب الإنسان ربه عن ذلك كله، لأنّه مسؤولٌ أمام الله تعالى عن كل ما يتحرك به في حياته.
فالله سبحانه خلق الإنسان، وأراد منه أن يكون المسؤول أمامه، وأن تكون التقوى هي رصيده وزاده الذي يتزوده عندما ينتقل من الدنيا إلى الآخرة، {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى ـ لأن التقوى هي التي تجعل الإنسان في مواقع القرب من الله وفي مواطن رحمته ومغفرته ـ واتقوني يا أولي الألباب} [البقرة:197] يا أولي العقول، لأن الإنسان إذا كان صاحب عقل واستحضر عقله في حركة حياته، فإن عقله يوحي إليه بأن عليه أن يطيع الله فيما أمره به، وأن ينتهي عما نهاه عنه، ليحصل على ثوابه، وليبتعد عن عقابه.
علامات التقوى
وقد قاله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربكم ـ وذلك بأن تسيروا في أعمالكم وأقوالكم وعلاقاتكم بما يجعلكم مستحقين لأن يغفر الله ذنوبكم ـ وجنةٍ عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين} [آل عمران:133]، فالله تعالى أعدّ جنته لمن اتقاه. ثم يبيّن الله بعض علامات التقوى، وكيف يمكن للإنسان أن يكون تقياً: {الذين ينفقون في السرّاء والضرّاء}، وهم الذين ينفقون أموالهم، سواء كانوا في حال سعة أو في حال ضيق، لمن يستحقها من الفقراء والأيتام والمساكين، فللضيق إنفاقه، وللسعة إنفاقها، وذلك بحسب إمكانات الإنسان. فالله يريد للإنسان أن يتقيه، بأن ينفق مما آتاه ومما حمّله مسؤوليته، وأن يعيش روحية العطاء من خلال هذا الإنفاق. {والذين في أموالهم حقٌ معلوم* للسائل والمحروم} [المعارج:24-25]، فالإنفاق ليس مجرد إحسان أو تبرع من شخص لآخر، ولكنه حقٌ فرضه الله على الإنسان، فإذا بخل بحق الله، فإنّه يكون سارقاً لما أفاضه الله تعالى عليه من نعمه، لأن الله تعالى جعل للفقراء حقاً في أموال الأغنياء، كما ورد في أحاديث أئمة أهل البيت(ع): "إن الله جعل للفقراء في أموال الأغنياء ما يكفيهم، ولو علم أنه لا يكفيهم لزادهم".
الصفة الثانية للمتّقين: {والكاظمين الغيظ}، وهم الذين إذا أغاظهم الناس فإنهم لا يفجِّرون غيظهم، بل يحبسونه في أنفسهم، وربما يعفون عن الذي أغاظهم. لأنّ كظم الغيظ يمثل قوة في النفس وفي الشعور وفي الإرادة، فكل إنسان تدفعه نفسه إلى أن يثأر لها، أو أن يتعامل مع من أساء إليه بالمثل، ولكن الله سبحانه وتعالى أحبّ للإنسان أن يعفو عمّن أساء إليه، تقرّباً إليه سبحانه {ويدرأون بالحسنة السيئة} [الرعد:22].
وقد جاء في القرآن أيضاً: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة:237]، أي أنّك إذا كنت صاحب حقّ وأساء الآخرون إليك، فمن حقك أن تردّ الإساءة، ولكن العفو هو أقرب للتقوى التي تمثل التقرب إلى الله سبحانه وتعالى. {والعافين عن الناس والله يحبّ المحسنين} [آل عمران:134].
وقد روي عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)، أنه كانت له جارية، وكانت تصب له الماء ليتهيّأ للصلاة، وكان الإبريق الذي تصبّ منه ثقيلاً، لأنه كان مصنوع من نحاس، فشغلت عن مسؤوليتها بأن صارت تتطلع من هنا ومن هناك، فسقط الإبريق من يدها، فشجّ جبهة الإمام ونزل منها الدم، فقالت هذه الجارية: والكاظمين الغيظ، يعني أنا أغظتك، لكن أنت من قوم يكظمون الغيظ، فقال(ع): "قد كظمت غيظي"، قالت: والعافين عن الناس، أنت من أناسٍ يعفون عمن أساء إليهم، قال(ع): "عفا الله عنكِ"، قالت: والله يحب المحسنين، قال(ع): "اذهبي فأنت حرة".
وتتابع الآية ذكر صفات المتقين: {والذين إذا فعلوا فاحشةً ـ والفاحشة لا تتعلق فقط بالانحراف في الجانب الجنسي، بل هي كل عملٍ تجاوز الحدّ في المعصية ـ أو ظلموا أنفسهم ـ بمعصية الله سبحانه وتعالى ـ ذكروا الله ـ فالإنسان في بعض الحالات قد تغلبه نفسه الأمارة بالسوء، فيبادر إلى معصية الله سبحانه وتعالى، ويستمر في عصيانه هذا، ولكن بعض الناس بمجرد أن يقع في المعصية، يحاسب نفسه على ما فعل ويستغفر ربه من ذنبه ـ فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ـ لأنّ الله وحده هو الذي يغفر الذنوب كلها ـ ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} [آل عمران:135]. وقد جاء في الروايات أنه "لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار"، بمعنى أن الصغيرة تنقلب إلى كبيرة إذا أصرّ الإنسان عليها.
وقد حذرنا الله تعالى في دعوته من ترك التقوى، فقال سبحانه: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيءٌ عظيم* يوم ترونها تذهل كل مرضعةٍ عما أرضعت وتضع كل ذات حملٍ حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} [الحج:1-2].
تأصيل المفاهيم الإسلامية
لذلك، أيها الأحبة، إن شهر رمضان هذا هو شهر المغفرة، وهو، كما ذكر الإمام زين العابدين(ع) في دعائه، شهر الطَّهور، وشهر التمحيص يمحِّص الإنسان فيه نفسه، وشهر الإسلام يؤصِّل الإنسان فيه إسلامه. لأنه فرصة لأن يجلس الإنسان مع نفسه، في دعائه، وفي صلاته بين يدي الله سبحانه وتعالى، وأن يفكِّر في أعماله، وأن يحاسب نفسه ويجاهدها ويربيها على التقوى، بحيث لا يقدم رجلاً ولا يؤخر أخرى حتى يعلم أن في ذلك لله رضى...
وأن يعوّد نفسه على طاعة الله سبحانه وتعالى، حتى يكون من أولياء الله وجنده، كما ورد في دعاء يوم الثلاثاء: "اللهم اجعلني من جندك فإن جندك هم الغالبون، واجعلني من حزبك فإن حزبك هم المفلحون، واجعلني من أوليائك فإن أولياءك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون".
"اللهم أصلح لي ديني ـ وإصلاح الدين يكون بأن يراقب الإنسان ما فسد من ممارساته الدينية بفعل شهواته أو بفعل وسوسة الشيطان له ـ فإنه عصمة أمري ـ فالدين هو الذي أعتصم به وأتمسك به عندما ألقاك يا رب ـ وأصلح لي آخرتي ـ اجعلني يا ربِّ أقدم على الآخرة وأنا في خط الصالحين، لتكون آخرتي آخرة صالحة، بحيث أستحق دخول الجنة ـ فإنها دار مقري، وإليها من مجاورة اللئام مفري، واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير ـ اجعل أيامي المقبلة أفضل من أيامي السابقة، بحيث يكون امتداد الحياة امتداداً للخير الذي يصدر مني ـ والوفاة راحة لي من كل شر"، لتكون الوفاة نهاية الشرّ في حياتي، حتى لا يمتد ويزيد بامتداد حياة الإنسان. وهذا ما ورد أيضاً في دعاء الإمام زين العابدين(ع): "وعمِّرني ما كان عمري بذلةً في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك، قبل أن يسبق مقتك إليّ، أو يستحكم غضبك عليّ".
أيها الأحبة، إن هذا الشهر هو شهر المغفرة والبركة والرحمة، وعلينا أن نستفيد من هذا الموسم الروحي، حتى نستطيع أن نحصل على رضوان الله ومحبته {يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون* إلا من أتى الله بقلبٍ سليم} [الشعراء:87-88].