المكـان : بيروت ـ 4/6/1969
المناسبـة : بمناسبة ذكرى مرور سبع سنوات على وفاة السيد عبد الحسين شرف الدين
المقدمـة : كتب الياس الديري في ملحق النهار
كثيراً ما كنت أتساءل : في مواجهة رجل دين، ما هو السؤال الحي، العصبي، الذي ممكن أن يطرح دون أن يدخل الإحراج طرفا ثالثا في الحوار؟
ثم ، ماذا عند رجل الدين بالنسبة إلى إنسان هذا العصر المليء بالصراخ والوجع والخوف ، والمليء بالضجر والقلق ، واليأس ؟
ثم، ماذا يقول رجل الدين جواباً عن تساؤلات هذا الجيل المتغطية في أحيان غير قليلة، أبعاد الإيمان والانتهاء المطلق؟
إلى أن فوجئت بأنني أمام رجل دين، وان الأسئلة التي كنت أخاف عليها أن يحرج بعضها البعض أو تحرج غيرها، سلكت سبيلها إلى الخلاص وبلغت مكانا تستوي عنده وتقدم نفسها.
ولكن، قبل الدخول في تفاصيل الحوار، أرى من الضروري التوقف للحظات والتأمل في شخصية العلامة السيد موسى الصدر.
قبل كل شيء، يضعك هذا الرجل الطويل القامة ذو الوجه الحامل تعابير البعد والثقة، في متعة الاطمئنان إليه، يهيئك، فور النظر إلى عينيه الملفوفتين بالهدوء والفرح والذكاء، كي تقول وتسأل بعيدا عن كل حرج.
أينما زرعت السؤال، ومن أينما اقتلعته تجده جاهزا للإجابة، عنده جواباً، وتجده ليس فقط رجل دين،إنما في صميم هموم إنسان العصر، من القلق حتى الخوف والضجر.
وسبق " للملحق" أن تحاور معه منذ شهر، قبل انتخابه رئيساً للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. والآن هذا الحوار الثاني يكمل الأول.
ـ الــنـــص ـ
س ـ انتخابك رئيسا للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى قوبل بالارتياح في أوساط أخرى. ومرد هذا الارتياح إلى أنك قادر على أن تفعل وتحقق. فماذا تعد وماذا تتوخى أن تفعل وتحقق؟
ج ـ أنا اشعر بمقتضى انتسابي إلى هذه الطائفة بحب وتقدير ومسؤولية. ثم أنظر إلى تاريخها فأجد فيه صفحات مشرقة تدل على إمكاناتها الثقافية والحضارية والبشرية بصورة قل نظيرها. ثم أقيس الماضي مع الحاضر فلا أجد ما يرضي طموحي وطموح أبناء هذه الطائفة. مع العلم أن الإمكانات والطاقات المتوفرة لدى أبناء هذه الطائفة تزيد عن الماضي ولا تنقص.
حينئذ، وبمقتضى حبي ومسئوليتي، أفكر في السبب لهذه المفارقة، فأجده في عدم التنظيم. وما قانون المجلس إلا أسلوب لبناني لتنظيم شؤون " الطائفة.
فمن جانب آخر، أنني كمؤمن بالله وبدينه أرى من واجبي السعي الدائم لخدمة عباده من الناحية الروحية ومن النواحي الاجتماعية. واعتقد أن هذه الخدمة تؤدي بصورة كاملة لدى التنظيم لوضع هذه الفئة المؤمنة التي فوضت بعض شؤونها إلي.
ثم أني اشعر بحب واعتزاز ومسؤولية تجاه لبنان بصورة خاصة وتجاه هذه الأمة بصورة عامة، وأجد أن الخدمة التي يمكنني أن أقدمها هي فوق طاقاتي المحدودة، فإذا ساهمت في تنظيم طاقات فئة من المواطنين أكون أديت بعض الواجب.
وبصورة أساسية "الخلق كلهم عيال الله واحب الناس إليه انفعهم لعياله" ولا يمكن إيصال النفع إلى الإنسان بصورة كاملة في هذا الكون المنظم إلا بطريق التنظيم.
الشيعة في لبنان :
س ـ تاريخ الطائفة الشيعية في لبنان، ومن أين أتوا، وكيف وصلوا إلى الجنوب والبقاع ومن أول من جاء بهم؟
ج ـ لقد حاولت منذ سنة تحضير دراسة حول هذا السؤال بالذات بتكليف من جامعة ستراسبورغ وسوف اقدم نسخة منها إلى جريدة "النهار".
وبإيجاز، بدأ التشيع ينتشر في لبنان، منذ النصف الأول من القرن الأول الهجري، وذلك عن طريق بعض صحابة النبي الذين كانوا يتجولون في بلاد الشام على حد تعبيرهم لأجل الدعوة الاسلامية. وهؤلاء كانوا يسمون ، في أيام النبي بشيعة علي، أمثال: أبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي و غيرهما.
ثم أستمر هذا الأمر ونما بواسطة بعض كبار صحابة النبي والتابعين الذين ما كانوا منسجمين مح الحكم القائم في المدينة والكوفة، وكانوا يثورون على تصرفات الحكام، فكان جزاء عملهم التسفير إلى منطقة بلاد الشام.
ثم تلاحقت الأسباب مثل واقعة صفين التي اشترك فيها الإمام علي، ومثل واقعة استشهاد الإمام الحسين، ونقل آل بيته إلى هذه المناطق، وتجولهم القسري فيها، وانعكاسات هذه الحادثة على الناس، وغير ذلك.
هذه الأسباب وسواها جعلت التشيع يتكون وينمو في هذه المنطقة. وبلغ التشيع عصره الذهبي بعد قرن ونصف قرن من هذا التاريخ وسيطر على جميع المنطقة بما فيها لبنان، وكان له دور كبير في تطوير المنطقة حضارياً وثقافياً وفنياً.
ثم إبتلى التشيع بعصور الاضطهاد الطائفي والاستعمار القاسي سبعة قرون أو تزيد. وخلال هذه الفترة نجد أيضا انه أدى دورا بارزا في الحقول الإنسانية، مما جعل مثلاً، خمس علماء الشيعة وكتبهم في العالم من لبنان.
ولا شك أن هذا الاضطهاد الطويل انعكس أخيرا على أبناء هذه الطائفة، فكون الواقع الذي لا يشرف قبل عهد الاستقلال، والذي بدأ يتغير بسرعة منذ عهد الاستقلال. ونرجو أن يكون تنظيم شؤون الطائفة فصلاً جديداً في تاريخها.
س ـ هل ممكن معرفة من هم الشيعة؟ ماذا يشكلون؟ فيم يفكرون؟
ج ـ أما وضع الشيعة في الوقت الحاضر، سوف أوجزه لك في المحاضرة. انهم لبنانيون بإخلاص ووفاء عميقين. يؤمنون بالمصير العربي المشترك ويعتبرون أن المشكلة الأولى لهم مشكلة المطامع الصهيونية.
أما البحث عن صفاتهم النفسية فاتركها لغيري، حيث أن تزكية المرء نفسه أمر قبيح.
ومن النواحي الاجتماعية نجدهم برغم كثرة نسبة الأمية مقبلين على التعلم بصورة لا نظير لها وعلى هذا الطريق نجدهم في سعي حثيث إلى تحسين وضعهم الاجتماعي في مختلف الحقول.
س ـ قلق الإنسان المعاصر هل لدى المذهب الشيعي من جواب واضح عنه ؟
ج ـ إن المذهب الشيعي الذي هو مذهب إسلامي في جميع مبادئه يؤمن بان الدين هو الفطرة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم:30). صدق الله العظيم
ولهذا فالإنسان قاعدة وهدف ومسلك للتعاليم الاسلامية. لكن الإنسانية بمعالمها وأبعادها تتأثر غالبا بالمصالح والأجواء والظروف والرواسب التي تعيشها. وهذا يؤكد ضرورة غيبية الدين وسماويته.
لهذا أيضاً لا نجد في التعاليم الاسلامية تجاهلاً لواقع الإنسان الذاتي والمرحلي إطلاقا. بل الحاجات الإنسانية مقدسة وتلبيتها من الله نعمة وحدودها الصحيحة تعاليم دينية.
أما الإنسان القلق المعاصر فهو حسب رأيي، منذ التحول العظيم في الصناعة والحضارة والمشاركة البشرية العامة في العالم والتكنولوجيا والتنظيم، إن الإنسان هذا ظن انه وجد إلهاً آخر غير الله، فأعطى للعلم والصناعة والمكاسب الحضارية الأخرى، أعطاها صفة الإطلاق وتنكر ل واعتبره غير مؤثر في عالم الطبيعة. وكأن دور الله في الخلق أن يكون عنصراً من العناصر الكيماوية في المختبر أو دولاباً في المصنع أو مادة زراعية لخصوبة الأرض.