المتحرّرين المصريين وغير المصريين أمثال الشيخ محمود أبو ريّة صاحب «أضواء على السنة المحمدية» وكتاب «شيخ المضيرة» وكالقاضي الشيخ محمد أمين الانطاكي صاحب كتاب «لماذا اخترت مذهب أهل البيت» وكالسيد محمد بن عقيل الذي ألّف كتاب «النصائح الكافية لمن يتولّى معاوية» ـ بل ذهب بعض الكتّاب المصريين إلى تكفير الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر عندما أفتى بجواز التعبّد بالمذهب الجعفري.
وإذا كان شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية يشنّع عليه لمجرّد اعترافه بالمذهب الشيعي الذي ينتسب لأستاذ الأئمة ومعلّمهم جعفر الصادق (عليه السلام) فما بالك بمن اعتنق هذا المذهب بعد بحث وقناعة وتناول بالنقد المذهب الذي كان عليه وورثه من الآباء والأجداد. فهذا ما لا يسمح به أهل السنّة والجماعة ويعتبرونه مروقاً عن الدّين وخروجاً عن الإسلام وكأنّ الإسلام على زعمهم هو المذاهب الأربعة، وغيرها باطل. إنها عقول متحجّرة وجامدة تشبه تلك العقول التي يحدثنا عنها القرآن والتي واجهت دعوة النبي (صلى الله عليه وآله) وعارضته معارضة شديدة لأنّه دعاهم إلى التوحيد وترك الآلهة المتعدّدة قال تعالى: «وعجبوا أن جاءهم منذرٌ منهم وقال الكافرون هذا ساحرٌ كذّاب، أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب» [سورة ص: الآية 5].
ولكل ذلك فأنا واثقُ من الهجمة الشرسة التي سوف تواجهني من أولئك المتعصّبين الذين جعلوا أنفسهم قوّامين على غيرهم فلا يحقّ لأحد أن يخرج عن المألوف لديهم ولو كان هذا المألوف لا يمتّ للإسلام بشيء وإلاّ كيف يحكم على من انتقد بعض الصّحابة في أعمالهم بالخروج عن الدّين والكفر، والدّين بأصوله وفروعه ليس فيه شيء من ذلك.
بعض المتعصّبين كان يروّج في أوساطه بأنّ كتابي «ثم أهتديت» يشبه كتاب سلمان رشدي، ليصدّ الناس عن قراءته بل ويحّهم على لعن كاتبه.
إنّه الدسّ والتزوير والبهتان العظيم الذي سوف يحاسبه عليه ربّ العالمين وإلاّ كيف يقارن كتاب «ثم اهتديت» الذي يدعو إلى القول بعصمة الرسول (صلى الله عليه وآله) وتنزيهه والإقتداء بأئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً بكتاب «الآيات الشيطانية» الذي يشتم فيه صاحبه الملعون الإسلام ونبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) ويعتبر أنّ الدين الإسلامي هو نفثة الشياطين؟!
فالله يقول: «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم» [سورة النساء: الآية 135].
ومن أجل هذه الآية الكريمة فأنا لا أبالي إلاّ برضاء الله سبحانه وتعالى ولا أخشى فيه لومة لائم ما دمت أدافع عن الإسلام الصحيح وأنزّه نبيّه الكريم عن كل خطأ ولو كان ذلك على حساب نقد بعض الصّحابة المقرّبين ولو كانوا من «الخلفاء الراشدين» لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو أولى بالتنزيه من كلّ البشر. والقارئ الحرُّ اللّبيب يفهم من كلّ مؤلّفاتي ما هو الهدف المنشود فليست القضية هي انتقاص الصّحابة والنيل منهم بقدر ما هو دفاع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعصمته ودفع الشبهات التي ألصقها الأمويون والعباسيون بالإسلام وبنبيّ الإسلام خلال القرون الأولى التي تحكّموا فيها على رقاب المسلمين بالقهر والقوة وغيّروا دين الله بما أملته عليهم أغراضهم الدنيئة وسياستهم العقيمة، وأهواؤهم الخسيسة. وقد أثّرت مؤامرتهم الكبرى على كتلة كبيرة من المسلمين الذين اتّبعوا عن حسن نيّة فيهم وتقبّلوا كل ما رووه من تحريف وأكاذيب على أنها حقائق وأنها من الإسلام ويجب على المسلمين أن يتعبّدوا بها ولا يُناقشوها.
ولو عرف المسلمون حقيقة الأمر لما اقاموا لهم ولا لمروياتهم وزناً ثم أنّه لو كان التاريخ يروي لنا بأنّ الصّحابة كانوا يمتثلون أوامر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونواهيه ولا يناقشونه ولا يعترضون على أحكامه، وأنّهم لم يعصوه في أواخر أيام حياته في عدة أحكام، لحكمنا بعدَالتِهم جميعاً ولما كان لنا في هذا المجال بحثٌ ولا كلام.
أمّا وأنّ منهم مكذّبون ومنهم منافقون ومنهم فاسقون بنص القرآن والسنّة الثابتة الصحيحة.
أمّا وأنّهم اختلفوا بحضرته وعصوه في أمر الكتاب حتّى اتهموه بالهذيان ومنعوه من الكتابة. ولم يمتثلوا أوامره عندما أمّر عليهم أسامة، أما وإنّهم اختلفوا في خلافته (صلى الله عليه وآله) حتّى أهملوا تغسيله وتجهيزه ودفنه واختصموا من أجل الخلافة فرضي بها بعضهم ورفضها بعضهم الآخر ـ أمّا وأنهم اختلفوا في كل شيء بعده حتّى كفّر بعضهم بعضاً ولعن بعضهم بعضاً وتحاربوا فقتل بعضهم بعضاً وتبرّأ بعضهم من بعض أما وأنّ دين الله الواحد أصبح مذاهب متعدّدة وآراء مختلفة فلا بدّ والحال هذه أن نبحث عن العلّة وعن الخللّ الذي أرجع خير أمّة أخرجت للنّاس وأهوى بها إلى الحضيض فأصبحت أذلّ وأجهل وأحقر أمّة على وجه البسيطة تنتهك حرماتها وتحتلّ مقدساتها وتستعمر شعوبها وتشرّد وتطرد من أراضيها فلا تقدر على دفع المعتدين ولا مسح العار عن جبينها.
والعلاج الوحيد فيما أعتقد لهذه المعضلة هو النقد الذّاتي فكفانا التغنّي بأسلافنا وبأمجادنا المزيّفة التي تبخرت وأصبحت متاحف أثرية خالية حتى من الزّوار. والواقع يدعونا أن نبحث عن أسباب أمراضنا وتخلّفنا وتفرّقنا وفشلنا حتى نكتشف الدّاء فنشخّص له الدواء الناجع لشفائنا قبل أن يقضي علينا ويأتي على آخرنا.
هذا هو الهدف المنشود والله وحده هو المعبود وهو الهادي عباده إلى سواء الصراط.
وما دام هدفنا سليماً، فما قيمة اعتراض العترضين والمتعصّبين الذين لا يعرفون إلا السّباب والشتائم بحجّة الدفاع عن الصّحابة، وهؤلاء لا نلومهم ولا نحقد عليهم بقدر ما نرثى لحالهم لأنهم مساكين منعهم حسنُ ظنهم بالصّحابة وحجبهم عن الوصول للحقيقة فما أشبههم بأولاد اليهود والنّصارى الذين أحسنوا الظنّ بأبائهم وأجدادهم، ولم يكلّفوا أنفسهم جهد البحث في الإسلام معتقدين بمقالة أسلافهم بأنّ محمداً كذّابٌ، وليس هو بنبيّ. قال تعالى: «وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة» [سورة البيّنة: الآية 3]. وبمرور القرون المتتالية أصبح من العسير اليوم على المسلم أن يُقنع يهوديّاً أو نصرانيّاً بعقيدة الإسلام فما بالك بمن يقول لهم بأن التوراة والإنجيل اللذين يتدالونهما هما محرّفان ويستدل على ذلك بالقرآن، فهل يجد هذا المسلم آذاناً صاغية لديهم؟
وكذلك المسلم البسيط الذي يعتقد بعدالة كلّ الصّحابة ويتعصّب لذلك بدون دلل فهل يمكن لأحد من النّاس أن يقنعه بعكس ذلك؟
وإذا كان هؤلاء يطيقون جرح ونقد معاوية وابنه يزيد وأمثالهم كثير الذين شوّهوا الإسلام بأعمالهم القبيحة فما بالك إذا كلّمتهم عن أبي بكر وعمر وعثمان «الصديق والفاروق ومن تستحي منه الملائكة» أو عن عائشة أم المؤمنين زوجة النبي (صلى الله عليه وآله) وأبنة أبي بكر والتي تكلمنا عنها في فصل سابق بما رواه عنها أصحاب الصحاح المعتمدين عند أهل السنة وجاء الآن دور الخلفاء الثلاثة لنكشف عن بعض أفعالهم التي سجّلها عليهم صحاح السنّة ومسانيدهم وكتب التاريخ المعتمدة لديهم لنبيّن أوّلاً أن مقولة عدالة الصّحابة غير صحيحة وأن العدالة انتفت حتى عن بعض الصّحابة المقرّبين.
ولنكشف ثانياً لإخواننا من أهل السنة والجماعة بأنّ هذه الانتقادات لا تدخل في السبّ والشتم والانتقاص بقدر ما هي إزالة للحجب للوصول إلى الحق كما أنها ليست من مختلقات وأكاذيب الروّافض كما يدّعي عامة النّاس وإنّما هي من الكتب التي حكموا بصّحتها وألزموا أنفسهم بها.
أبو بكر الصدّيق في حياة النبي (صلى الله عليه وآله)
أخرج البخاري في صحيحه من الجزء السادس صفحة 46 في كتاب تفسير القرآن سورة الحجرات. قال: حدثنا نافع بن عمر عن أبن أبي مليكة قال كاد الخيران أن يهلكا ابا بكر وعمر رضي الله عنهما رفعا أصواتهما عند النبي (صلى الله عليه وآله) حين قدم عليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع واشار الآخر برجل آخر قال نافع لا أحفظ أسمه فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلاّ خلافي قال ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله «يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم» الآية. قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد هذه الآية حتّى يستفهمه ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر.
كما أخرج البخاري في صحيحه في الجزء الثامن صفحة 145 من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة. باب ما يكره من التعمّق والتنازع. قال أخبرنا وكيع عن نافع بن عمر عن أبن أبي مليكة قال: كاد الخيّران أن يلهكا أبو بكر وعمر، لما قدم على النبي (صلى الله عليه وآله) وفد بني تميم، أشار أحدهما بالأقرع بن حابس التميمي الحنظلي أخي بني مجاشع وأشار الآخر بغيره، فقال أبو بكر لعمر: إنما أردت خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك فارتفعت أصواتهما عند النبي (صلى الله عليه وآله) فنزلت: «يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون، إن الذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجرٌ عظيم».
قال ابن أبي مليكة قال ابن الزبير: فكان عمر بعد ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر إذا حدّث النبي (صلى الله عليه وآله) بحديث حدّثه كأخي السرار لم يسمعه حتّى يستفهمه.
كما أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الخامس صفحة 116 من كتاب المغازي ـ وفد بني تميم قال: حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم عن ابن أبي مليكة أنّ عبد الله بن الزبير أخبرهم أنّه قدم ركبٌ من بني تميم على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو بكر أمر القعقاع بن معبد بن زرارة: فقال عمر: بل أمِّر الأقرع بن حابس. قال أبو بكر ما أردت إلا خلافي، قال عمرك ما أردت خلافك فتمارياً حتّى ارتفعت أصواتهما فنزلت في ذلك: «يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله» حتى انقضت.
والظاهر من خلال هذه الروايات أنّ أبا بكر وعمر لم يتأدّبا بحضرة الرسول (صلى الله عليه وآله) بالآداب الإسلامية وسمحا لانفسهما بأن يقدّما بين يدي الله ورسوله بغير إذن ولا طلب منهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يبديا رأيهما في تأمير أحد من بني تميم، ثم لم يكتفيا حتى تشاجرا بحضرته وارتفعت أصواتهما أمامه من غير احترام ولا مبالاة بما تفرضه عليهما الأخلاق والآداب التي لا يمكن لأي أحد من الصّحابة أن يجهلها أو يتجاهلها بعد ما قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) حياته في تعليمهم وتربيتهم.
ولو كانت هذه الحادثة قد وقعت في بداية الإسلام لالتمسنا للشيخين في ذلك عذراً ولحاولنا أن نجد لذل بعض التأويلات.
ولكنّ الروايات تثبت بما لا يدع مجالاً للشكّ بأنّ الحادثة وقعت في أواخر أيّام النّبي (صلى الله عليه وآله) إذ أن وفد بني تميم قدم على رسول الله في السنة التاسعة للهجرة ولم يعش بعدها رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ بضعة شهور كما يشهد بذلك كل المؤرخين والمحدّثين الذين ذكروا قدوم الوفود على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتي تحدث عنها القرآن الكريم في أواخر السور بقوله: «وإذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً».
وإذا كان الأمر كذلك فكيف يعتذر المعتذرون عن موقف أبي بكر وعمر بحضرة النبي (صلى الله عليه وآله) ولو اقتصرت الرواية على الموقف الذي مثله الصحابيّان فسحب لما وسعنا النقد ولا الاعتراض. ولكن الله الذي لا يستحي من الحق سجّلها وأنزل فيها قرآناً يتلى، فيه التنديد والتهديد لأبي بكر وعمر بأن يحبط الله أعمالهما إن عادا لمثلها، حتى أن راوي هذه الحادثة بدأت كلامه بقوله: كاد الخيّران أن يهلكا أبو بكر وعمر.
ويحاول راوي الحادثة بعد ذلك وهو عبد الله بن الزبير أن يقنعنا بأنّ عمر بعد نزول هذه الآية في شأنه إذا حدّث رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يسمعه صوته حتى يستفهمه ورغم أنّه لم يذكر ذلك عن جدّه أبي بكر فالتاريخ والأحداث التي ذكرها المحدّثون تثبت عكس ذلك ويكفي أن تذكر رزيّة يوم الخميس قبل وفاته (صلى الله عليه وآله) بثلاثة أيام حتّى نجد بأن عمر نفسه قال قولته المشؤومة «إن رسول الله يهجر وحسبنا كتاب الله» فاختلف القوم فمنهم من يقول قرّبوا إلى الرسول يكتب لكم ومنهم من يقول مثل قول عمر فلمّا أكثروا اللّغط والاختلاف (1) قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: قوموا عنّي لا ينبغي عندي التنازع (2) فالمفهوم من كثرة اللغو واللغط والاختلاف والتنازع، أنهم تجاوزوا كل الحدود التي رسمها الله لهم في سورة الحجرات كما مرّ. ولا يمكن إقناعنا بأن اختلافهم وتنازعهم ولغطهم كان هَمْساً في الآذان بل يفهم من كل ذلك بأنهم رفعوا أصواتهم حتى أن النّساء اللاتي كن وراء الستر والحجاب شاركن في النّزاع وقلنَ قرّبوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يكتب لكم ذلك الكتاب فقال لهن عمر: إنكنّ صويحبات يوسف إذا مرض عصرتنّ أعينكنّ وإذا صحّ ركبتنّ عنقه فقال له رسول الله: دعوهن فإنّهن خير منكم (3).
والذي نفهمه من كل هذا بأنهم لم يمتثلوا أمر الله في قوله: «يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ولا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ» ولم يحترموا مقام الرسول ولا تأدّبوا عندما طعنوه بكلمة الهجر.
وقد سيق لأبي بكر أن تلفّظ بكلام بذيء بحضرة النبي (صلى الله عليه وآله) وذلك عندما قال لعروة بن مسعود أمصَصْ ببظر اللاّب (4). وقال القسطلاني شارح البخاري معلّقاً على هذه العبارة، والأمر بمص البظر من الشتائم الغليظة عند العرب، فإذا كانت أمثال هذه الكلمات تقال بحضرته (صلى الله عليه وآله) فما هو معنى قوله تعالى: «ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض» ؟.
وإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) على خلق عظيم كما وصفه ربّه وإذا كان أشدّ حياءً من العذراء في خدرها كما أخرج ذلك
البخاري ومسلم (5) وقد صرّح الشيخان البخاري ومسلم بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يكن فاحشاً ولا متفحّشاً وكان يقول: «إنّ من خياركم أحسنكم أخلاقاً» (6) فما بال صحابته المقرّبين لم يتأثّروا بهذا الخلق العظيم؟
أضف إلى كل ذلك بأنّ أبا بكر لم يمتثل أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) عندما أمّر عليه أسامة بن زيد وجعله من جملة عساكره وشدّد النكير على من تخلّف عنه حتى قال: لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة (7) وذلك بعدما بلغه (صلى الله عليه وآله) طعن الطاعنين عليه في مسألة تأمير أسامة التي ذكرها جلّ المؤرخين وأصحاب السير.
كما أنّه سارع إلى السّقيفة وشارك في إبعاد علي بن أبي طالب عن الخلافة، وترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) مسجّى بأبي هو وأمّي ولم يهتمّ بتغسيله وتكفينه وتجهيزه ودفنه متشاغلاً عن كل ذلك بمنصب الخلافة والزعامة التي أشرأبّت لها عنقه، فأين هي الصّحبة المقرّبة والخلّة المزعومة وأين هو الخلق؟ وأنا أستغرب موقف هؤلاء الصّحابة من نبيّهم الذي قضى حياته في هدايتهم وتربيّتهم والنصح لهم «عزيز عليه ما عنّتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم..» فيتركونه جثّة هامدة ويسارعون للسّقيفة لتعيين أحدهم خليفة له. ونحن نعيش اليوم في القرن العشرين الذي نقول عنه بأنّه أتعس القرون وأنّ الأخلاق تدهورت والقيم تبخّرت ومع كل ذلك فإن المسلمين إذا ماتَ جارٌ لهم أسرعوا إليه وانشغلوا به حتّى يواروه في حفرته ممتثلين قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إكرام الميّت دفنه».
وقد كشف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن تلك الوقائع بقوله: «أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلّي منها محل القطب من الرّحا…» (.
ثم بعد ذلك استباح أبو بكر مهاجمة بيت فاطمة الزّهراء (سلام الله عليها) وتهديده بحرقه إن لم يخرج المتخلّفون فيه لبيعته. وكان ما كان ممّا ذكره المؤرّخون في كتبهم وتناقله الرواة جيلاً بعد جيل. ونحن نضرب عن ذلك صفحاً وعلى من أراد المزيد أن يقرأ كتب التاريخ.
أبو بكر بعد حياة النّبي (صلى الله عليه وآله)
تكذيبه للصّديقة الطّاهرة فاطمة الزّهراء وغصبه حقّها
أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الخامس صفحة 82 في كتاب المغازي باب غزوة خيبر قال: عن عروة عن عائشة أن فاطمة (عليها السّلام) بنت النبي (صلى الله عليه وآله) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لا نوّرث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال وإنّي والله لا أغيّر شيئاً من صدقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت وعاشت بعد النّبي (صلى الله عليه وآله) ستّة أشهر، فلمّا توفّيت دفنها زوجها علي ليلاً وصلّى عليها ولم يؤذن بها أبا بكر وكان لعلي من النّاس وجهٌ في حياة فاطمة فلمّا توفيت استنكر عليّ وجوه النّاس فالتمس مصالحه أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر… (9).
وأخرج مسلم في صحيحه من الجزء الثاني كتاب الجهاد باب قول النبي (صلى الله عليه وآله) لا نورث ما تركنا فهو صدقة.
عن عائشة عنها أنّ فاطمة (عليها السّلام) ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) سألت أبا بكر الصديق، بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وممّا أفاء الله عليه فقال لها أبو بكر: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة» فغضبت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت وعاشت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ستّة أشهر قالت: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها ممّا ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خيبر وفدك، وصدقته بالمدينة، فأبي أبو بكر عليها ذلك وقال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعمل به إلاّ عملت به، فإنّي أخشى، إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ، فأمّا صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي والعبّاس، فأمّا خيبر وفدك فأمسكها عمر، وقال: هما صدقة رسول الله كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى من ولي الأمر. فهما على ذلك إلى اليوم(10).
ورغم أنّ الشّيخين البخاري ومسلم اقتضبا هذه الروايات واختصراها لئلاّ تنكشف الحقيقة للباحثين، وهذه فنٌّ معروف لديهما توخياه للحفاظ على كرامة الخلفاء الثلاثة، (ولنا معهما بحث في هذا الموضوع إن شاء الله سنوافيك به عمّا قريب).
إلاّ أن الروايات التي نمّقوها كافية للكشف عن حقيقة أبي بكر الذي ردّ دعوى فاطمة الزّهراء، ممّا استوجب غضبها عليه وهجرانها له حتى ماتت (عليها السّلام) ودفنها زوجها سرّاً في اللّيل بوصية منها دون أن يؤذن بها أبا بكر، كما نستفيد من خلال هذه الروايات بأن علياً لم يبايع أبا بكر طيلة ستّة أشهر وهي حياة فاطمة الزّهراء بعد أبيها، وأنّه أضطرّ لبيعته اضطراراً لمّا رأى وجوه النّاس قد تنكّرت له فالتمس مصالحة أبي بكر.
والذي غيّره البخاري ومسلم من الحقيقة هو أدّعاء فاطمة (عليها السلام) بأنّ أباها رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعطاها فدك نحلة في حياته فليس هي من الأرث، وعلى فرض أنّ الأنبياء لا يورثون كما روى أبو بكر ذلك عن النبي (صلى الله عليه وآله) كذّبته فاطمة الزّهراء (عليها السلام). وعارضت روايته بنصوص القرآن الذي يقول وورث سليمان داود، فإن فدك لا يشملها هذا الحديث المزعوم لأنّها نحلة وليست هي من الإرث في شيء.
ولذلك تجد كلّ المؤرخين والمفسّرين والمحدّثين يذكرون بأن فاطمة (عليها السّلام) ادّعت بأنّ فدك ملكاً لها فكذّبها أبو بكر وطلب منها شهوداً على دعواها فجاءت بعلي بن أبي طالب وأمّ أيمن فلم يقبل أبو بكر شهادتهما واعتبرها غير كافية. وهذا ما اعترف به ابن حجر في الصواعق المحرقة حيث ذكر بأنّ فاطمة ادّعت أنّه (صلى الله عليه وآله) نحلها فدكاً ولم تأتِ عليها بشهود إلاّ بعلي بن أبي طالب وأم أيمن فلم يكمل نصاب البيّنة (11).
كما قال الإمام الفخر الرّازي في تفسيره. فلما مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) ادّعت فاطمة (عليها السّلام) أنّه كان ينحلها فدكاً، فقال لها أبو بكر: أنت أعزّ النّاس عليُّ وأحبّهم إليَّ غنى، لكنّي لا أعرف صحة قولك فلا يجوز أن أحكم لك، قال فشهدت لها أم أيمن ومولى لرسول الله فطلب منها أبو بكر الشاهد الذي يجوز قبول شهادته في الشرع فلم يكن (12).
ودعوى فاطمة (عليها السلام) بأنّ فدكاً أنحلها لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنّ أبا بكر ردّ دعوتها ولم يقبل شهادة علي وأم أيمن معلومة لدى المؤرّخين وقد ذكرها كل من ابن تيمية وصاحب السيرة الحلبية وابن القيم الجوزية وغيرهم.
ولكنّ البخاري ومسلم اختصراها ولم يذكرا إلاّ طلب الزّهراء بخصوص الإرث حتّى يوهما القارئ بأنّ غضب فاطمة على أبي بكر في غير محلّه، ولم يعمل أبو بكر إلاّ بما سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهي ظالمة وهو مظلوم، كل ذلك حفاظاً منهما على كرامة أبي بكر فلا مراعاة للأمانة في النقل ولا لصدق الأحاديث التي كانت تكشف عن عورات الخلفاء وتنزيل الأكاذيب والحجب التي نمّقها الأمويون وأنصار الخلافة الراشدة، ولو كان ذلك على حساب النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه أو بضعته الزّهراء (سلام الله عليها). ومن أجل ذلك حاز البخاري ومسلم على زعامة المحدّثين عند أهل السنة والجماعة واعتبروا كتبهما أصح الكتب بعد كتاب الله. وهذا تلفيق لا يقوم على دليل علمي وسنبحثه إن شاء الله في باب مستقل حتّى نكشف الحقيقة لمن يريد معرفتها.
ومع ذلك فإننا نناقش البخاري ومسلم اللّذين أخرجا في فضائل فاطمة الزّهراء (عليها السّلام) الشيء اليسير ولكن فيه ما يكفي لإدانة أبي بكر الذي عرف الزّهراء وقيمتها عند الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) أكثر ممّا عرفه البخاري ومسلم ومع ذلك كذّبها ولم يقبل شهادتها وشهادة بعلها الذي قال فيه رسول الله: «عليّ مع الحقّ والحقّ مع علي يدور معه حيث دار» (13) ولنكتفِ بشهادة البخاري وشهادة مسلم في ما أقرّه صاحب الرّسالة (صلى الله عليه وآله) في فضل بضعته الزهرانّ أهل السنّة والجماعة وكما قدّمنا لا يسمحون بنقد وتجريح أيّ صحابي من صحابته (صلى الله عليه وآله) ويعتقدون بعدالتهم جميعاً، وإذا كتب أي مفكر حرّ وتناول أفعال بعض الصّحابة، فهم يُشنّعون عليه بل ويكفّرونه ولو كان من علمائهم وذلك ما حصل لبعض