يخطئ من يعتقد أن قضية جنوب السودان، هي قضية شعب جنوبي، يريد أن ينفصل عن شعب شمالي، وتكون له دولته المستقلة ذات السيادة. فهذه الدولة التي أصبحت اليوم قائمة بالفعل على الأرض، وبات العالم ينتظر الإعلان عن ولادتها في أي وقت، إنما هي تتويج لمؤامرة صليبية قديمة لتغيير هوية السودان العربية الإسلامية، هذا البلد – القارة بموقعه الاستراتيجي على البوابة الجنوبية للعالم الإسلامي، بين منطقتي القرن الأفريقي والبحيرات الكبرى الإستراتيجيتين. وقد بدأ التخطيط لتلك المؤامرة في القرن الخامس عشر، مع هوس الغزاة البرتغاليين لأفريقيا والهند تطويق العالم الإسلامي، وقطع مياه النيل عن مصر - التي كانت معقلا للمماليك، ثم العثمانيين من بعدهم - ومن ثم الزحف على قلب العالم الإسلامي وتدمير مكة والمدينة، ثم مواصلة الزحف شمالا لاستعادة مدينة القدس وإحياء المملكة اللاتينية في فلسطين التي قضى عليها صلاح الدين الأيوبي سنة 1187م.
وتتخذ هذه المؤامرة من كتابات المؤرخين الغربيين المهتمين بالشأن الأفريقي والذين ترعاهم الكنيسة الغربية، أساسا لها. إذ يزعم هؤلاء المؤرخون أن بلاد السودان والنوبة وشرق أفريقيا، كانت ممالك نصرانية مثلها مثل مملكة أكسوم النصرانية في الحبشة. ويتحدث هؤلاء المؤرخون في كتاباتهم الموجهة أساسا لمخاطبة عواطف أنصار الكنيسة وإلى الرأي العام الغربي عموما، يتحدثون، بكل أسى عن أسماء لممالك مسيحية كانت تحكم السودان، وتشكل امتدادا لمملكة النوبة، قبل أن يقضي عليها المجاهدون المسلمون إبّان مرحلة الصحوة الإسلامية التي شهدتها شرق أفريقيا والسودان في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ويؤسسوا على أنقاضها سلطنات إسلامية جديدة، في إشارة إلى سلطنة الفور في دار فور أواسط القرن الخامس عشر, وسلطنة الفونج في القرن السادس عشر. كما يتحدثون عن بقايا آثار لأسماء عدد من المدن المسيحية المزدهرة في السودان، والتي دمرها المسلمون – بزعمهم أيضا – في تلك المرحلة. ولا يزال بعض وثائق الكنيسة الانكليزية الصادرة حديثا جدا يتحدث عن أن السودان دولة مسيحية استولى عليها المسلمون.
وبناء على ذلك عمل الاستعمار الغربي هناك على التخطيط لإعادة بعث وإحياء تلك الممالك والمدن المسيحية، أو خلقها من العدم – بعبارة أصح –. وإن كان ذلك بأشكال وأساليب جديدة.
وكانت سياسات الاستعمار البريطاني في جنوب السودان تصب في هذا الاتجاه منذ اليوم الأول لفرض هيمنته الاستعمارية على السودان سنة 1899. بل منذ أن قتل ثوار المهدية (1881-1898) جنرالهم العتيد غوردن سنة 1885. فقد كانت بريطانيا تنظر إلى السودان نظرة عقائدية دينية بالدرجة الأولى حيث أن المصالح الاقتصادية لم تكن هي الأهم، لذا فإن كنيسة انجلترا هي التي رسمت خطوط حملة كتشنر الثأرية (1897-1899) لتحويل السودان إلى دولة مسيحية بالكامل.
وبعد أن دانت قبائل جنوب السودان، لسلطة القهر والاستبداد، عمل المستعمر البريطاني على تمزق أوصال الاتصال الثقافي - الاجتماعي بين الشمال والجنوب, وحرص في الوقت نفسه على تشجيع التبشير المسيحي في هذه المنطقة، ووفر له كل أشكال الدعم ماديا ومعنويا، ووضع التعليم المدني عموما والتعليم العالي خصوصا، تحت إشراف مدارس الإرساليات الكنسية, عبر تأسيس كلية غوردن، وجعل الإنجليزية اللغة الرسمية، في الجنوب, وحارب مظاهر الثقافة العربية الإسلامية بكل السبل, لدرجة أنه منع رؤساء القبائل من اتخاذ أسماء عربية أو لبس الزي العربي, ثم أبعد التجار الشماليين من الأسواق الجنوبية, والعاملين المسلمين من وظائف الدولة في الجنوب.
وبلغت تلك السياسة ذروتها بإصدار قانون المناطق المقفولة الذي سعى إلى عزل جنوب السودان إداريًا, وثقافيًا, واجتماعيًا عن شماله, وبذلك غُرست بذور الفرقة والشتات بين الشمال والجنوب, وشُيد حاجز نفسي بين طرفي القطر . وبذلك استطاعت الإدارة البريطانية, كما يرى بعض الكتاب, أن (تُمدِّن) جنوب السودان في إطار قيمها الغربية وبعض ثوابت تراثه المحلي.
وبرغم كل ذلك فلم ينجح مشروع تنصير السودان، ولا حتى جنوبه، مع نبذ الحركة الوطنية السودانية لـ(فكرة الانفصال) والاعتراف (بضرورة الوحدة بين الشمال والجنوب ).في مؤتمر جوبا الذي انعقد في مايو 1947م. وظل السودان مصدرا للمفاجآت غير السارة لأنصار مشروع تنصير السودان، بدءا بمفاجأة رفض البرلمان السوداني، غداة الاستقلال سنة 1956 الانضمام إلى رابطة الشعوب البريطانية (الكومنولث) مرورا بإلغاء القوانين الانكليزية التي كانت تحكم السودان حتى عام 83 وإبدالها بقوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية، وتعريب الدراسة في الجامعات العام 91 وغيرها.
إلا أن بذور الفرقة بين الشمال والجنوب ظلت موجودة، ولم يتلاش بينهما الحاجز النفسي، الذي صنعه الاستعمار البريطاني، ولم تستطع الحكومات السودانية التي توالت على حكم السودان بعد الاستقلال من إذابة الجليد بين الشمال والجنوب، لا سيما مع انشغال الأحزاب السياسية بالصراع على السلطة في الخرطوم.
وفي ظل هذا الواقع ظل إحساس كنيسة انكلترا بأنها راعية المسيحيين في السودان على رغم أن معظم هؤلاء لا يدينون بالانجليكانية.
وعلاوة على دعم حركة التمرد المسلح في الجنوب، ظلت بريطانيا تتولى دون مواربة تجميع القوى المناوئة للحكومة السودانية الحالية في داخل السودان وخارجه حتى أصبحت لندن بؤرة تجمع ودعم لكل من يحاول تفتيت السودان تحت شعار إسقاط النظام الأصولي. وبقي المتنصرون في جنوب السودان بمثابة مسمار جحا للتدخلات البريطانية والكنيسة الانجليكانية المستفزة في الشئون الداخلية للسودان، لدرجة أن السودان على خلفية هذه التدخلات قام بطرد السفير البريطاني بيتر ستريمز، من بلاده سنة 1991. بعد أن أكتشف أن عواطف صليبية حميمة كانت تحركه وبأنه مشبع بفكرة تحطيم كيان السودان القائم لصالح المشروع الصليبي المنطلق من الجنوب.
وقد مرت المؤامرة الصليبية على السودان بمراحل عديدة، حتى وصلت اليوم إلى مرحلة النضج بعملية فصل جنوب السودان عن شماله، والتي باتت جاهزة ولم يتبق سوى الإعلان عن ولادتها رسميا، وهو الأمر الذي بات مؤكدا لا سيما مع تلويح الحكومات الغربية – وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية بالاعتراف بها.
ومن الغريب، أن الأنظمة العربية والإسلامية التي سبق لها التفريط في العراق قبل بضع سنوات، تقف اليوم متفرجة على ما يحدث في السودان ولا تحرك ساكنا، وعلى رأسها النظام المصري، برغم كونه يعلم يقينا، أن قيام دولة في جنوب السودان موالية للغرب وللكيان الصهيوني، الهدف منه أحياء المشروع الصليبي القديم لقطع مياه النيل عن مصر، أو على الأقل جعلها تحت رحمتهم إلى الأبد.