بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
والصلاة والسلام على محمد وال محمد
الإنسان بطبيعته غافل ولا بد له من اليقظة من نوم الغفلة ليبدأ حركته الجوانحية و الجوارحية للكمال المطلق ويبدأ المسير إلى عالم
الفضائل ، ويهاجر إلى الله ويترك وراء ظهره عالم الرذائل ليسافر إلى وطن القرب تاركاً وطن البعد .
والمؤمن لا يحتاج الكثير من العناء لبلوغ عالم الفضائل واستيطان وطن القرب ، ذلك لكون الله سبحانه وتعالى قريب منه جدا ، بل هو
أقرب إليه من نفسه . قال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) سورة ق الاية 16
ولكن الشرط في ذلك كله يكمن في حركة الإنسان إلى الله بعد اليقظة .
قال الإمام السجاد عليه السلام في دعاء أبي حمزة الثمالي : " وأن الراحل إليك قريب المسافة ... "
فرحلة الإنسان من الغفلة الى اليقظة تبدأ بتفحصه أعماله ليتجنب تلك الأعمال التي تحجبه عن ربه وقد بين الله تعالى في الكتاب أنه
عزوجل مع عباده فقال تعالى : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) سورة الحديد الاية 4 .
غير أننا كبشر غالباً ما نكون غافلين عن ربنا القريب منا ، ولو سعينا للالتفات إلى الله في عطاياه وكرمه ورحمته وتسديده ورأفته
وقدرته وقوته وعزته ورعايته لكنا أكثر قرباً منه سبحانه .
وفي حديث قدسي : " أنا جليس من ذكرني " .
ما لم يخرج الإنسان من عالم الغفلة ويستيقظ من نومه هذا (نومة الغافلين) لن يسير خطوة واحدة نحو الكمالات المعنوية والدخول في عالم اليقظة, وسوف يبقى في سباته حتى مماته وبعد الموت سوف يرى أنه في غفلة من أمره طوال سنين عمره (الناس نيام وإذا ماتوا انتبهوا) وسوف ترتفع عن عينيه غشاوة الغفلة (الحجب) وحينئذٍ سيرى كل شيء على حقيقته المعنوية واضحة وجلية وضوح الشمس في رابعة النهار ( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد)1.
ولقد جاء في الأثر إن أهل البيت عليهم السلام كانوا دائماً يحثوا أتباعهم على الإنتباه من الغفلة وكشف الحجب وطلب إعانة الله على ذلك اللهم نبهنا من نومة الغافلين) وكذلك (اللهم اكشف عن بصائرنا أغشية المرية والحجاب) مما يدل على أن أهل البيت كانوا يريدون من أتباعهم الوصول إلى مرحلة الإنتباه واليقظة ورفع الحجب الظلمانية والنورانية منها, لأنه كلٌ حسب مرحلته, فهناك من هو في نومة وسكر الشهوة والمشتهيات والرغبات وحجب المادة, ومن هو في نومة التعلق بالمقام المعنوي وحجب العلم, لأن العلم الحجاب الأكبر كما يعبر سيد العرفاء روح الله الخميني (رهـ) وسوف نتناول موضوع العلم وكيفية السير فيه وموانعه وحجبه في مكانه الخاص به,إن شاء الله.
فالتعلق بالدنيا و مادياتها سببٌ رئيس في جعل الإنسان يعيش حالة الغفلة والإنشداد نحو الميول الشهوانية وإشباع الرغبات النفسانية التي لا تنتهي أبداً, فكلما أشبع الإنسان رغبة من رغباته طالبته النفس بإشباع رغبة أخرى أكبر من الفائتة وهكذا حتى مماته مالم يستيقظ ويروض النفس على القناعة، يقول سيد العرفاء الإمام الخميني (رهـ) إن أكثر أهل الدنيا شقاءً هم الأثرياء كلما حصلوا على شيء طمعوا في شيءً أكبر..... ولو امتلك الإنسان مدينة من النساء وعلم أن هناك مدينة أخرى لطمع في امتلاك تلك المدينة).
اللهم نبهنا من نومة الغافلين وجعلنا من القانعين السعيدين.
وإليك بعض قصص الذين كانوا في عالم الغفلة,وكيف انتقلوا إلى عالم اليقظة.
يقول أحد السالكين قبل أن أعيش حالة الصحوة من نوم الغفلة.. ذهبت يوماً إلى أستاذي, فقرأ لي موضوعات من كتاب (في محضر الأستاذ).وهذه الموضوعات التي قالها الأستاذ لم يذكر أسمه في الكتاب كان لها في داخلي أثر الإيقاظ, ومن حينها بدأت التطلع إلى الكمالات والسير إلى الكمالات والسير إلى الله.
استغرقني التفكير ليلة, بعد صلاتي المغرب والعشاء في مسائل كانت تلح عليّ: صحيح أننا نختلف عن أصحاب النظرة المادية للحياة - من فلاسفة ماديين وسواهم- الذين لا يؤمنون بما وراء الطبيعة.. لكننا ربما لا نختلف عنهم في هذا من الوجهة العملية.
نحن مثلاً لا نعرف من أين جئنا, ولا ندري على نحو كامل إلى أين سنصير.1
ليست لنا بالله من صلة مباشرة, فلا نحن نكلمه, ولا نحن نتلقى منه إجابة
الزيارات التي نزور بها الأئمة الأطهار عليهم السلام.. نؤديها في طرفة عين! ومهما سلمنا عليهم سلاماً.. لم نظفر بجواب السلام! بل إننا لا نتوقع جواباً!
نحن لا معرفة لنا بإمام الزمان عليه السلام الذي جعله الله تعالى في بدن ظاهر, لنتمكن من الكلام معه, ونأنس به, فهو حجة الله وواسطة ما بيننا وبين الله. بل إن عدة منا يكذبون حتى في قضية اللقاء به عليه السلام.
صارت الصلاة لنا عادة, فلا هي تقربنا إلى الله, ولا نحن نعلم ما معنى القرب من الله تبارك وتعالى.2
لا تعرج بنا صلاتنا, ولا نعرف معنى العروج والصعود إلى الأعلى.3
لا هي تنهانا عن الفحشاء والمنكر, ولا نحن ندرك معنى أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.4
ما رأينا الملائكة, ولا عرفنا علة خلقهم.. مع أنهم خدم لمحبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.5
ما وجدنا أنساً بالجن, وما لنا من إيمان كامل بوجودهم.
سمعنا باسم الشيطان, ولكننا ما فكرنا أبداً أن كيف يقدر أن يخدع بني آدم في لحظة؟
وأهم من هذا كله.. أننا ما عرفنا أرواحنا, ولا استبانت لنا أسرار النوم والموت, وبعبارة واحدة: نحن قابعون وراء حجاب المادية, ولا علم لنا بشيء!
تلك الليلة.. أخذني فكر عميق في هذه المسائل: لم نحن كذلك؟!
كانت ليلة عسيرة بالقياس إليّ.. اشتمل عليّ فيها موج من الأفكار والتساؤلات المصيرية عدة دقائق. ولو كانت قد طالت لعصفت بي ولوجدتني أخرج إلى البرية صارخاً, ولبقيت في البؤس والخسران.
بيد أني عدت في وقتها إلى نفسي, وفكرت: أني أؤمن بالله, وقدمت لتلاميذي عشرات الأدلة على إثبات وجوده, وقد كنت بلغت درجة من العلم ,وإني لأحب الله, أحبه أكثر من أي أحد.
إنه طالما عاملني بصفته (الرحمن) كما عاملني بصفته (الرحيم), وأنا دائم التقلب في ألطافه ونعمائه.
وإذن.. فلم لا أطلب منه أن يكشف عن قلبي الحجب المعنوية؟
ألم يقل ( جل وعلا): (أليس الله بكاف عبده).1
أوليس هو القائل:
(ومن يتوكل على الله فهو حسبه).2
جلست بين يديه, وحبه غالب في قلبي, وإذ كنت جالساً مستقبلاً القبلة, مقبلاً عليه (تعالى شأنه). غفلت فجأة عن كل ما هو مادي, وتوجهت إليه وحده, فوجدتني بكل وجودي أمام الله, حتى ذهلت عن نفسي.
ما حضرني عندها من الأذكار التي أحفظها إلا اليونسية - أي: ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين).3
ورحت أردد هذه العبارة, متدبراً في معناها, وربما كنت قد كررتها وأنا ساجد أكثر من مئة مرة.. حتى حقق إلهي الوفي, إلهي الحبيب, إلهي العزيز.. وعده الذي ذكره في آخر هذه الآية حيث قال: ( وكذلك ننجي المؤمنين).4- يعني: كما أنجينا يونس من الغم لما قال هذه العبارة.. فكذلك ننجي المؤمنين من الغم.
وهكذا وفى لي إلهي, فأنجاني - كما أنجى يونس- من جميع الحجب الظلمانية, ومن جميع العذابات, وفتح لي عين قلبي وأذني ولساني.. وشرح لي صدري. الحمد لله, وشكراً لله,( إلهي.. كيف أشكرك وشكري منك نعمة أخرى تقتضي شكرا).1
عندها أحسست كأني مثل من أفاق من سبات عميق, وتنبه إلى ما فرط فيه, وما لحقه من خسر, فقررت من فوري أن أتدارك ما فات, لكني لا أدري كيف.
قال:
بعد هذه الجلسة غداً في وسعي أن أرى ربي الرحمن الرحيم بعين قلبي, فأكلمه وأناجيه, وأن أرتبط به, فأسمع كلامه, ومازلت كذلك في حالة وصال فلا أخلو من ألطافه غير المتناهية, ولم لا يكون كذلك؟
أولم يقل: ( وهو معكم).2 وقال: ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)3؟
أوليس هو القائل: (وهو على كل شيء قديرا)4؟
وهو القائل: (ألا إنه بكل شيء محيط).5
والقائل: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها).6
وإذن.. فلم يكون مع كل شيء, ثم لا يكون معي؟!
أيكون على كل شيء قديراً, ولا يكون قادراً على إسداء ما أسدى إليّ؟!
أيمكن أن يكلم كل نفس فيلهمها فجورها وتقواها.. ولا يكلمني ولا يلهمني شيئاً؟!
قال:
في ليلة من ليالي أول سن البلوغ - ولم أكن قد تعرفت على شيء من الحقائق والمعنويات وأسرار الخليقة – صليت صلاة الليل, طبق ما أوصاني به أحد العلماء الأجلاء, وفي السجدة الأخيرة.. غلبني النوم, فسمعت هاتفاً يتلو علي هذه السورة من القرآن:
بسم الله الرحمن الرحيم (والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها * والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها).7
وعند هذه الآية هببت من النوم.. وظللت أتسمع إلى الآية الأخيرة وهي تتلى في اليقظة عدة مرات:
(قد أفلح من زكاها)..
(قد أفلح من زكاها)..
(قد أفلح من زكاها)..
ثم أخذ الصوت يعلو ويرتفع, حتى كاد من فرط علوه وشدته أن يمزق طبلة أذني, فصرخت وقد تملكني الخوف.. ووقعت على الأرض في إغماء.
في حينها انكشف لي معنى هذه الرؤيا أن: لماذا لا تصغون - يا من أسلموا- إلى كلام الله.. خالقكم الذي آتاكم كل شيء, وما حدث أن كذب عليكم ولا كان في قوله من المبالغة شيء؟!
ألم تروا.. كيف يقسم بإلحاح وتوكيد أن يجعل الفلاح والسعادة من نصيب الذين يزكون أنفسهم؟!
ألا تكفيك كل هذه الأقسام و التوكيدات بكل ما هو مقدس لديه.. لأن تستفيق من نوم الغفلة وتستيقظ؟!
(والشمس): (قسم برسول الله محمد بن عبد الله (ص)).1
(وضحاها) - أي: ضحى الشمس: (قسم بنفس محمد (ص)).
(والقمر إذا تلاها): (قسم بنفس علي (ع) في مقام كونه, كما يقول هو (ع), عبداً من عبيد محمد (ص)).2
( والنهار إذا جلاها): ( قسم بنفس الحسن والحسين (ع) في مقام إضاءتهما العالم بذريتهما الطيبة وكلامهم الحق).3
ثم القسم بالليل إذا يغشى, والقسم بالسماء, وبمن بنى هذه القبة العظيمة الرائعة, والقسم بالأرض وبمن مدها وبسطها, والقسم بالنفس الإنسانية, وبمن خلقها سوية معتدلة, وألهمها الفجور والتقوى ودلها عليهما.. إن من زكاها وطيبها لمفلح, وإن من دنسها ودساها لخائب خاسر.
ترى: ألا تكفي هذه السورة المباركة لتجعلك تهب من نوم الغافلين؟!
ألا يكفي هذا التأكيد بلفظة (قد) في آية سورة (الأعلى) حين قال الله عز وجل: (قد أفلح من تزكى).. ألا يكفي هذا التأكيد لتصحو من نومك الثقيل؟!