على الرغم من سلسلة الهزائم المتلاحقة التي شهدتها مسيرة تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط إلا أنه لا يزال هناك عدد ليس بالقليل من الساسة الاميركيين الذين ينتمون للتيارات السياسية المختلفة سواء اليمين أم اليسار، يؤكدون على أن تعزيز المساعي الديمقراطية في الشرق الأوسط يعد أحد المكونات الأساسية للسياسة الاميركية في المنطقة.
وفي هذا الإطار أصدر معهد هوفر Institution Hoover الشهر الجاري "مارس" دراسة بعنوان "تعزيز الديمقراطية من أجل وقف الإرهاب"Promoting Democracy to Stop Terror للكاتبين "شادي حميد Shadi Hamid" و"ستيفن بروك Steven Brooke " نشرت في بولسى ريفيو Policy Review تدعو الإدارة الاميركية الحالية بقيادة أوباما لضرورة تغيير أسلوب التعاطي مع تلك المسألة ليس بالأقوال فحسب كما كان يحدث من الرئيس والإدارة السابقة والبعد عن الخطب الرنانة دون تعزيزها بأفعال تسير في الاتجاه ذاته، ذلك على اعتبار أن الديمقراطية هي السبيل الوحيد للقضاء على الإرهاب والعنف السياسي الذي تعاني منه منطقة الشرق الأوسط.
تعزيز الديمقراطية ما بعد بوش
مع انتهاء فترتي بوش ووصول أوباما لسدة الحكم دار نقاش موسع داخل الولايات المتحدة حول وضعية كل من الديمقراطية وحقوق الإنسان في السياسية الاميركية حيث تم التوصل للاتفاق عام حول ضرورة إعادة تقييم التمركز الاميركي في المنطقة وعدم مهاجمة النظم السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وعلى هذا النهج اتخذ الرئيس أوباما القرار الاستراتيجي بضرورة التركيز على وضع حل للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الذي يمثل جوهر الامتعاض والشكوى من قبل الجانب العربي مما أدى إلى تعزيز العلاقات مع نظم استبدادية لاسيما المصرية والأردنية نظرًا لدورهما الرئيسِ، والذي لا غنى عنه في عملية السلام.
يرى عديد من المحللين أن هذا التحول في الأسلوب وخفض مستوى الترويج للديمقراطية لتعتلي مرتبة أقل في إطار أولويات السياسة الاميركية في المنطقة يمكن أن يعيد الوضع كما كان عليه قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، لكن هذا التحول لا يعني التحول عن الهدف الأساسي وهو نشر الديمقراطية ودعمها، لكن باستخدام أدوات مختلفة هي تقديم مساعدات فنية وتقنية لكل من السلطة التشريعية والقضائية وتقوية مؤسسات المجتمع المدني في المنطقة. بعبارة أخرى التحول من نهج الهجوم إلى نهج أكثر رصانة يعتمد على الدعم وليس الانتقاد والهجوم.
والحقيقة أن هذا الاتجاه الرافض لهذا النهج الجديد الذي يطلق علية" النهج المجزأ" Piecemeal Approach، يستند إلى فرضية مفادها أن الولايات المتحدة هي الدولة الأقوى على الساحة العالمية مما يعطيها الحق في توفير الأساليب الأكثر ملاءمة لدعم مسيرة الديمقراطية هذا بالطبع على المستوى النظري، لكن على المستوى العملي، تسأل الدراسة إلى أي مدى يمكن ترجمة تلك الأقوال إلى سياسات على أرض الواقع.
الديمقراطية والإرهاب: علاقة عكسية
كشفت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 بشكل لا ريب فيه عن وجود علاقة عكسية بين غياب الديمقراطية وعدم توفير السبل السلمية للأفراد للاعتراض وإبداء شكواهم من جانب واللجوء إلى العنف من جانب آخر. وبهذا تؤكد الدراسة على أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر لم تحدث بسبب رفض وكره الإرهابيين للحرية والديمقراطية الاميركية وإنما بسبب ما أفرزته البيئة السياسية في منطقة الشرق الأوسط من إحباط وغضب وعنف وغير ذلك من مظاهر القمع.
وهذا ما قد أكد عليه الرئيس السابق جورج دبليو بوش في خطابه التاريخي للصندوق الوطني للديمقراطية في نوفمبر من عام2003 حينما قال:"إن الشرق الأوسط سوف يستمر مصدرًا رئيسًا للعنف والإرهاب طالما استمر هذا النهج القمعي للحريات".
وبحلول عام 2005 أكد الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش على أن الترياق الوحيد ضد التطرف والإرهاب هو التسامح وخلق مجتمعات حرة هذا أيضًا ما أكدت عليه وزيرة الخارجية الاميركية السابقة كونداليزا رايس في صيف العام ذاته في زيارتها للقاهرة. بعبارة أخرى فقد أكدت الإدارة الاميركية في أكثر من موقف ومنبر على ضرورة دعم وتعزيز الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط بصورة مكثفة كأحد أساليب علاج الإرهاب والتطرف والعنف. ولكن مع تدهور الأوضاع في العراق، وفوز عديدٍ من الأحزاب ذات المرجعيات الإسلامية في الانتخابات التشريعية في مختلف بلدان المنطقة بدأ الحماس الاميركي في تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط في الزوال.
وهنا يؤكد الكاتبان على أن المشروع الاميركي لنشر وتعزيز الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط قد فشل، وذلك لأنه لم يكن منذ الوهلة الأول باستثناء عامي 2004 و2004 حيث قامت فيهم الولايات المتحدة بوضع عديدٍ من الضغوط على الأنظمة السياسية في المنطقة العربية لتطبيق المعايير الديمقراطية بصورة فعالة وحقيقية وبعيدة عن الخطب الرنانة.
وفى هذا الإطار استشهدت الدراسة بدراسة أخرى للكاتبين "فرانسيس فوكاياما" و"ميشيل فوكو" نشرت في عدد خريف 2007 من دورية Washington Quarterly حيث أكدت على أن الحديث الاميركي بصوت مرتفع عن استخدام أدوات مثل الحرب على الإرهاب وتعزيز الديمقراطية لتحقيق المصالح القومية الاميركية يبدو نفاق عندما تتعلق المسألة بالأمور الأمنية والاقتصادية.
محددات تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط
تؤكد الدراسة على أن مسألة نشر وتعزيز المسيرة الديمقراطية لا يقتصر فقط على الضغط على النظم السلطوية لاسيما المصرية والأردنية والسعودية، وإنما تستلزم أيضًا محاولة تفسير طبيعة العلاقة بين الاستبداد من جانب والإرهاب من جانب آخر. وفى هذا الإطار استشهد الكاتب بدراسة غير منشورة صدرت عام 2008 عن مركز ويست بوينت لمكافحة الإرهاب West Point’s combating Terrorism حيث أشارت إلى أن ارتفاع نسبة قمع الحريات المدنية هي أحد الأسباب الرئيسة وراء زيادة عدد المقاتلين الأجانب في العراق، حيث أكدت أن من 600 مقاتل لتنظيم القاعدة في العراق بينهم 41% من أصول سعودية وليبية.
وفى السياق ذاته، أكدت الدراسة على أن النظام السعودي يعد من أكثر سبعة عشر نظامًا قمعيًّا على مستوى العالم مما يجعله لا يطيق وجود أي تيار معارض له في الداخل ولهذا فقد اعتمد منذ بداية الثمانينيات على دعم شرعيته من خلال توجيه المعارضة لخوض معارك أخرى في الخارج لدعم ومساندة القضايا الإسلامية الأخرى، تلك الجماعات هي التي أصبحت تستهدف الولايات المتحدة الاميركية منذ بداية التسعينيات وحتى الآن، وهنا استخلصت الدراسة أن السياسة الداخلية السعودية كان لها عديد من العواقب والتداعيات الوخيمة على العالم الخارجي.
كما أشار الكاتبان إلى أنه مع انخفاض نسبة الاستبداد في العراق عن طريق دمج الجماعات المسلحة في العملية السياسية تبع ذلك انخفاض مستوى العنف كما حدث الأمر ذاته في فلسطين فمع مشاركة وفوز حماس بالانتخابات التشريعية عام 2006 ودمجها في العملية السياسية انخفضت معدل التفجيرات والعمليات الانتحارية والتي قد تزايدت قبل الدمج السياسي.
استراتيجية جديدة لمكافحة الإرهاب
وفى إطار البحث عن أسباب تفشي الظاهرة الإرهابية أو التطرفية، تؤكد الدراسة على أن الظاهرة التطرفية تتسم بكونها متعددة الأسباب منها ما هو اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي أو ديني يُسهم كل عنصر من تلك العناصر في تنمية أحد أبعاد التطرف إلا أن العنصر الأكثر تأثيرًا هو ما يطلق عليه "عجز الديمقراطية في الشرق الأوسط"، الذي يقوم بدوره رفع مستوى العنف وزيادة نسبة التطرف الديني في المنطقة الذي انعكس بشكل كبير على باقي المناطق في العالم بفعل ما يطلق عليه "التدفق الانتشاري"Spill Over . ومن ثم فإن أي جهود طويلة المدى لتعزيز مسيرة الديمقراطية المتعثرة في المنطقة لابد أن تقوم على تقديم الدعم الكامل للأصوات المدافعة عن الديمقراطية التي انهكت بفعل الأنظمة الاستبدادية.
تقوم الاستراتيجية الاميركية الجديدة في مكافحة وقمع الإرهاب على ضرورة توافر عدة عناصر رئيسة، وهي كالتالي:
أولاً: تقديم مساعدات مشروطة - للنظم الاستبدادية في المنطقة – في حالة القيام بإصلاحات سياسية وفي مجالات حقوق الإنسان.
ثانيًا: التركيز على الديمقراطية باعتبارها أحد محاور النقاش الهامة مع القادة العرب في إطار المباحثات الثنائية مع الولايات المتحدة الاميركية.
ثالثًا: السعي للتوصل لاتفاق يهدف لدمج الأحزاب الإسلامية غير العنيفة أو غير المسلحة في العملية السياسية.
رابعًا: استغلال الولايات المتحدة لعضويتها في المنظمات الدولية من أجل الضغط لزيادة المخصصات المالية والميزانيات المخصصة للشراكة مع منطقة الشرق الأوسط.
خامسًا: تعميق العلاقات مع الشركاء الدوليين لاسيما الاتحاد الأوروبي ورفع مستوى المسئولية من أجل تبني المبادرات المختلفة التي تهدف للجمع بين التيارات الإسلامية والعلمانية على حد سواء في النهج الديمقراطي.
سادسًا: لابد أن تأخذ الاستراتيجية في اعتبارها عند السعي لتوسيع حقوق المواطن اختلاف السياقات والاعتبارات المحلية لكل دولة على حدة.
سابعًا: تقديم الدعم المستمر لزيادة أحزاب المعارضة والسعي لإقامة انتخابات حرة نزيهة تقوم على الشفافية.
الاتفاق العام شرط رئيسٌُ لإنجاح الاستراتيجية
ولكن حتى لا تنزلق تلك الاستراتيجية في هوة الفشل، تشير الدراسة إلى ضرورة توافر اتفاق وإيمان ثنائي بين الساسة والشعب الاميركي بأهمية نشر وتعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط، حيث ترى الدراسة أن الخطوة الأولى هي التوصل للاتفاق مما سوف يعطي حيزًا وفرصة أكبر للتوصل لرؤية أكثر وضوحًا تهدف للقضاء على التطرف والإرهاب مما يحقق الأهداف والمصالح الاميركية في المنطقة على المدى البعيد، والبعد عن السياسة الاميركية التي طبقت في العقود السابقة التي تقوم على إقامة علاقات قوية وراسخة مع الأنظمة الاستبدادية في المنطقة على حساب الشعوب، على اعتبار أن هذا التقارب سوف يفضي على الجانب الآخر إلى تباعد شديد بين الولايات المتحدة والعرب والمسلمين الذين ينادون بالمبادئ الديمقراطية الأمر الذي يفقد الولايات المتحدة أحد أهم أسلحتها على المستوى الفكري في المنطقة.
*تقرير واشنطن- أحمد زكريا الباسوسي